الكتابة عن الشاعر قاسم حدّاد معراجٌ لا ينتهي. وضعَ أعضاءه في الرحلة الطويلة، ولم يرجع بعد. تصل منه الإشارات، نفهم من بعضها أنه ربما أوشك على عطْف العنان، لكنه كما في كلّ مرّة يخذل التوقعات، ويبغتُ بأفقٍ جديد وذخائرَ مكنوزة في عصب حرفٍ؛ لم يزل يرنّ بغير ما نعهد وبغير ما استقرّتْ عليه ذاكرة قرّائه. تتشغَّفُهُ الكتابة، تنهض به إلى ليلها. يسري ترجّفُهُ حُمّى ويفدحُ به قلقٌ؛ يطفر من الحواس ومن الروح. لا يطمئن إلى حبرٍ ولا تكفكفُهُ تجربة. مؤخّرا خرج من مختبر قاسم حدّاد كتابُه الشعري "طرفة بن الوردة" في نسخة مخطوطة، وأخرى مطبوعة (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2011). الكتابُ مبحثٌ جماليّ وتاريخي لشخصيّة الشاعر القديم "طرفة بن العبد" حيث يستعيده ويستدعيه حدّاد شعرا وسردا وبحثا؛ خالصا من التاريخ ومن الجغرافيا ومن الأساطير التي تراكمت حوله، فحجبتْ الشخصَ والنصَّ. تنكسر قضبان المؤرخين والرواة، وينفتح القفص. لا بقصد ترميم المحتوى وإعادة الحقيقة إلى سويّتها عقبَ تخليطٍ وانتحالٍ وتزوير. إنما إعادة الشخصيّة إلى نصابها الشعري. ردُّ العنفوان إلى كائنٍ يسعى، ولا يفنى. يتجاوز حكاية المكان، وينخرط في حكايات الأزمنة؛ جوّابا متحوّلاً في أسئلة الخروج والانعتاق من السلطةِ ومن الجماعة. مفردٌ. حرٌّ. وحيد. انطوتْ بذرتُهُ على التمرّد، ينهب حياته نهبا، بدمٍ مهدور لكنّه "ليس للنسيان". "طرفة بن الوردة" عملٌ خلاق. جهدٌ من التركيب والحفر. طبقاتٌ كثيفةٌ من الصَّوْغ والابتكار. مقترحاتٌ جماليّة نافذةٌ ولا تنفد. نقرأ "طرفة" في العنوان وبالدّاخل يتجلّى جُرمٌ شاهق؛ يفتّقُهُ حدّاد وينشُرُ خيمتَه الشاسعة شِراعاً يضمّ اليابسةَ والماء.. عناق الصحراء للبحر على هوى عطشٍ قديمٍ لا يرتوي؛ على تضوّر جائعيْنِ حصّتُهما ليست على المائدة. المرئيّ لا يسدّ خصاصةً ولا يبلّغ. اللامرئي صيدُهما المتفلّت؛ الضوءُ الروّاغ؛ الفراشةُ المستحيلة. مغامرةُ النّاسكِ تؤجّجُه الشهوةُ فيذهب معها ولا يعود. في خفاء هذا العالم ينتصبُ الكتابُ بأرواحٍ كثيرة وبأشباه وأنداد وأعداء. فتغزُرُ الكتابة ويطيبُ معها العمل. ثراء وخصوبة الشخصيّة، جاء إليها حدّاد من جهاتٍ تحفل باقتراح الشكل وبما هو أبعد من الكلمة وحدَها. لم يكن يشيّد كتابا ولا يجمع كلاما في صحائف. مهندسٌ يعكف على الخارطة. حدّادٌ يطرق المعدن. خزّافٌ يهيم في سديم الفسيفساء. باحثٌ ينقّبُ في الكِسَرِ والشظايا. كان القيّافَ يتبعُ الأثرَ ويصنعُ الدربَ والوسيلة ويقلبُ الحجر. الفتنة التي عاشها حدّاد مع "طرفة" عمرا ونصوصا مفردة، تنصبّ هنا عمارةً تأخذ القارئ في مساراتٍ لم يعتدْها في كتابٍ شعريّ حديث. البصرُ مشغوفٌ بمرايا تقسم الكتاب لكنها لا تفصمُهُ. العينُ ترى متناً وهامشاً. البصيرةُ تدركُ ضفّتينِ متقابلتيْن متضايفتيْن. الورقةُ المشقوقة إلى عموديْن، هي الأرضُ تلتقي فيها المصبّاتُ بفراتِها وأجاجها. الصمتُ والصوتُ يتجاوران. العينُ لا تستطيع المرورَ وحدها. تشتاق الأذن إلى الحنجرة فتشتعلُ الشفاه بالغناء. إيقاعٌ ينبعثُ من الشكل وآخر يضرب في عروق الكلمات ( قصيدة تنقضُّ على الشعر وتنقُضُ النثرَ، تأتي بهاوية المعاجم وتهلكة اللغة). الغوايةُ التي نَدَهَتْ حدّاد، وجذبتْهُ إلى سحرِها، فمضى في عبابها أربع سنواتٍ. ذاكرةُ الملاحِ تقوده في الجرحِ والتعديلِ والتأويل. الغوايةُ التي مسّتْهُ، لمستْ قارئَهُ بجمرتها؛ فاندلعَ طِيبٌ وفاضت نعمةُ النّافر (يضع القناديلَ للخطوات المذعورة في طريق الخروج). * كاتب سعودي