لم تعد "الكليجا" مجرد وجبة غذائية يصنعها أهل القصيم ليزينوا بها مناسباتهم الخاصة فحسب، بل أصبحت تراثا شعبيا ارتبط ارتباطا وثيقا بأهل المنطقة، وامتد عبرهم ليصبح علامة فارقة بين علامات التراث الشعبي السعودي ككل، وذلك بفضل المهرجان السنوي الذي تحتضنه بريدة هذه الأيام ويختتم أعماله غدا السبت. وأسس مهرجان الكليجا الرابع الذي يحتضنه مركز الملك خالد الحضاري لثقافة مجتمعية جديدة باتت تزاحم كثيرا من العادات والتقاليد التي تعيب على الكثير من مزاولة مهنة البيع والشراء، وامتهان الحرف اليدوية البسيطة، لتوصل المعنى الحقيقي لثقافة البيع والشراء الوليدة من رحم التكاتف والتعاضد التي تقوم عليها المجتمعات ذات الرسالات السامية. فإلى ما قبل سنوات قليلة كان الوافد الأجنبي في كثير من محال بيع المنتجات والمأكولات الشعبية والمشغولات التراثية، يقابلك بنبرة صوت جهورية وحادة مستهلاً معك الحديث بقوله "جِيب فُلُوس أول" قبل أن يمد لك البضاعة المشتراة أو حتى يعرضها لك في صورة تعكس الهدف المادي الحقيقي الجاف، والذي من أجله وقف هذا العامل خلف معروضات البيع ليُفقِد السوق ومظاهر التجارة أحد أهم قيمها الاجتماعية الأصيلة القائمة على روح التعارف والتكاتف والتلاحم في محيط البلد والمنطقة الواحدة بغض النظر عن التكسب وطلب الرزق، ليتحول السوق - مع الزمن - إلى ميدان مخيف للصراعات المالية والنزاعات، بعيداً عن كل قيمة إنسانية يندرج تحتها أي معنى للترابط والتواصل الإنساني النبيل. والآن وقد بات للعمل الحرفي والتحضير اليدوي المحلي لكثير من المنتجات والمأكولات الشعبية والحديثة التي تتبناها الكثير من مؤسسات وجهات البلد الحكومية والأهلية أفضلية في العرض والطلب من خلال مهرجانات متعددة كان آخرها مهرجان الكليجا الرابع ببريدة، طغت في هذا الملتقى الأسري الكبير ثقافة كادت أن تكون في طي النسيان، حين بدأت "عجائز الخير" و "مسنات البركة" من البائعات في المهرجان من ربات الأسر المنتجة، ببسط روح الإنسانية ودفء الأسرة الواحدة، التي تعكس القيم الاجتماعية الخلاقة لأبناء هذا البلد، بقول تلك المسنة وهي تقف بكل فخر واعتزاز خلف ركنها الخاص بالبيع، لأحد المتسوقين: " ذِق يا وليدي .. هذا طبخ أيديني" وذلك قبل أن يقف ويستكين الزبون أمام بسطتها ومحلها، مرحبة به، منتشية فخراً بأنها أنتجت وباعت صنع يدها. ذلك التحول الكبير الذي نقل صورة التجارة بالبيع والشراء من "جِيب فُلُوس" المتسمة بالتكسب واللهث خلف التحصيل المادي بأي وجه وأي صورة، دون المرور - حتى - على أي قيمة تشعرك بالحد الأدنى من الرابطة المجتمعية والإنسانية، إلى صورة " ذِق يا وليدي" التي نهضت بأنفاسها من عمق ثرى هذا البلد تلك المسنة مستبشرة بزبونها الصغير، لتشبع رغبته بالتذوق، واستكشاف السلعة بنفسه تحسساً وتذوقاً، ليصل إلى أقصى درجات الأمان الغذائي والمادي، قبل الشروع بالبيع أو الشراء، وكأنها تقول بفطرتها الأصيلة من حيث لا تدري: الصدق والوضوح والقيم النبيلة قبل كل شيء. هذا التحول عكس الهدف الأسمى الذي سعى لتحقيقه منظمو المهرجان، المتمثل بزرع القيمة الحقيقية للمفهوم الربحي المتلازم للنبل والأخلاق الحميدة، التي تمثل الطبيعة الحية لمواطني هذا البلد على مر الأجيال. نائب المدير التنفيذي لمهرجان الكليجا الرابع ببريدة عبد الرحمن السعيد، علق على كثير من الصور التي تحمل في طياتها القيم المجتمعية المتفردة بالأخلاق والمعاني الحميدة لأبناء هذا البلد، من خلال بروز مثل تلك المظاهر في مهرجان الكليجا الرابع التي عززتها أمهاتنا وأخواتنا، بأنها صور جلية سطعت بقيمة وموروث أهل هذا الوطن، الذي قام على العدل والصدق.