المتابع للرواية السعودية يكتشف أنها في كثيرٍ من إصداراتها؛ الذائعة الصيت أو خافتته، واقعةٌ تحت "سلطة نموذج" يعمل بمثابة بوصلة أو خارطة للنجاح والانتشار، وعلى الرغم من أن هذا النموذج ناله الإشباع والإعياء إلا أنه ما زال قابلاً للنسخ والتظهير، وترتيب "الخلطة غير السريّة" من جديد والقائمة على تلبية نداء التلصص الذي يهبُ صاحبَهُ لذّةَ الاطلاع على المحجوب والممنوع، والمختفي تحت رداء الطهرانيّة. ينخرق التابو، فيتبدّى المستور بما فيه من قيحٍ، وفضائحيّة تعلن البشريّة والترابيّة والانخلاع من الصورة المثاليّة وتوهُّم الكمال في الكائن الإنساني لمجرّد أنه ينتمي لمجتمعٍ بعينه تشغله التماميّة ويريدها ماثلة في جميع أفراده. هذا الانكشاف، أو اللحن الذي رددته طويلاً الرواية السعودية في السنوات العشر الأخيرة؛ أفضى إلى امتحان عسير يواجه المشتغلات والمشتغلين بالرواية في السعودية..امتحان الاستمرار في التناسخ والتشابه، أو الخروج منه وعليه بطريقة "فنيّة" تحتكم للمنطق الداخلي للرواية، لا لمؤشّر خارجي يضغط ويفرض سلطته؛ "سلطة النموذج". امتحان صعب ورهانٌ شاقّ. سباقٌ، ثمة من يستسهله فيقع في مباشرة فجّة.. وثمّة من يحاول ويختبر أدواته ويعدّدها، لكنه في منطقةٍ ما ينزلق إلى "النموذج" فيبهت الأثر الروائي وتضعف دائرة نجاحه الفني. الكاتبان محمد السماري وبدر السماري في عملهما الروائي الأول "ابن طرّاق" (نشر مشترك: أثر للنشر والتوزيع؛ الدار العربية للعلوم 2011) اختارا في مخططهما الروائي ارتياد السُّبُل المطروقة التي لا تحمل مفاجأة ولا تخذل أفق انتظار القارئ، الطبقة الصّاعدة من فترة الطفرة أواخر السبعينات والثمانينات من القرن الماضي والمشبوكة بفورة الأسهم والسوق العقاريّة، وما تولّد عنها من ثراء فاحش، وما نتج عن هذا الثراء من انهماك في الملذات وإفراط في الشهوات دون حسابٍ ولا رادع وما يحفّ عالم الثروة من كيديّة ونزاع ومؤامرات، تدور على النساء أولا وعلى المال ثانيا، في ترتيب يرتهن إلى "سلطة النموذج" كما قلنا سابقا، حيث "البهارات" المعهودة تتدفّق في جميع فصول الرواية مع هنادي والعنود وفردوس وليلى... تدفّقاً مسرفا، وربما يُجادَل بأن المكتوب ما هو إلا ترجمة حرفيّة لواقع هذه الطبقة الموسرة المنغمسة في شطط الملذات الجسديّة، غير أنه (ينبغي أن تظل هناك مسافة موضوعيّة بين الفن والحياة، ليبقى للفن ذلك التمايز النوعي الذي يختلف به عن خصائص النشاطات الأخرى في الواقع، وليبقى للحياة نفسها طبيعتها المستقلة. وهذا يتيح للفنان حريّته النسبيّة في صياغة وجدانه وقضاياه وأفكاره على نحوٍ، ربما يغاير ما هو عليه في واقع حياتنا اليوميّة من حيث المطابقة الفوتوغرافيّة غالي شكري، أزمة الجنس في القصة العربية المعاصرة). ولعلّ سبب هذا الإسراف في الرصد الفوتوغرافي عائدٌ إلى استجابة الكاتبيْن إلى إغواء الحكاية بطابعها الشفويّ الميّال إلى الحدثيّة والوصف. القارئ لا يقرأ بقدر ما يشاهد سلسلةً متتابعة من الأحداث والمشاهد الوصفيّة. عينٌ خارجيّة لا تريد أن تفوّت شيئا، مغرمة بالتفاصيل ومطاردتها عبر سيناريو مفعم بالشخصيات والأحداث؛ لا يعتمد البناء التعاقبي الخيطي. ثمّة تقطيع لتلك التفاصيل وإعادة تركيب يعوّل على تقنيّة الاسترجاع (الفلاش باك) يبرّره فنيّاً غياب الشخصيّة الرئيسيّة ابن طرّاق منذ إشراقة الرواية بصفحاتها الخمس الأولى.. فيجري استجماع الصورة الكليّة بمتابعة شخصيّات العائلة ومن يرتبط بها من حارة الطراقيّة أو تلك الزائرة في مزرعة ابن طراق التي يمارس فيها شهواته بترتيب من سرحان بن مسبط (رجل المهمات الخاصة) ولوزيّة (المتعهّدة النسائية). تتكامل على مهل تلك الصور المجزّأة عن حياة ابن طرّاق، ومماته الذي بقي سرّه مطمورا ولم يُكشف إلا مع مشاهد الرواية الأخيرة (مشهد 52: فياجرا) المؤلفة من 55 مشهدا في 430 صفحة. إن الانسياق وراء إغراء الحكاية بما هي حدث ووصف، لم يسمح بالإطلالة الكافية على دخائل الشخصيّات؛ الكائنات الإنسانيّة وتوتراتها الكيانيّة التي تشطرها وتضربها برياح القلق (يخرج عن هذا الحكم، برأيي، شخصيّتا: "الشقردي" فرج عيدي، والابن الثاني طرقي) رغم الهامش الذي يتتوّج به كل مشهد ويظهر فيه صوت إحدى الشخصيّات أو الراوي بضمير المتكلم. الأمر الذي جعل القارئ محبوسا في حدود السطح والمشاهد، فيما عمل الكاتب أبعد من ذلك. يقول الفنان التشكيلي بول كلي (إن الفن لا يرينا ما هو منظور، بل يجعل ما لا نراه منظورا). هذا العطب في الرواية أحسبه ناشئا من خلو الحكاية من الضبط الفني والاستسلام لسطوة الوصف. فحين تفلت الحكاية، ولا يسيطر عليها صاحبها؛ تتحوّل إلى ثرثرة قد تكون مسليّة لكن تكلفتها فادحة فنيّا.. وحين لا يحتفظ الوصف بنظامه في البناء الروائي باعتباره إحدى استراتيجيات الكتابة حيث تأتي الوحدة الوصفيّة (ضمن سياق نصّي متّسع يجب أن يكون لها فيه دور فاعل ومؤثّر نجوى الرياحي القسطيني، في نظرية الوصف الروائي)؛ فإنه يتحوّل إلى مجانيّة واستعراض وعامل تشتيت وانقطاع في السرد. وتبعاً لهذه الرؤية، لا يستطيع القارئ إلا أن يلاحظ أنه بإزاء نسخة ورقيّة من مسلسل "هوامير الصحراء" متخفّفة من الاعتبارات "البصريّة" التي يفرضها التلفزيون.