" تروح تدور الشهادة وتجيب الشهادة، تروح واحد وترجع واحد، تروح طرقي وترجع طرقي". هذه الوصايا من ابن طرّاق لابنه طرقي، الذي كان مسافراً للدراسة في لندن، تمثل الملامح الصارمة والحاسمة في شخصية هذا الرجل الذي يهيمن حضورًا وغيابًا على العمل الروائي الذي حمل عنوان" ابن طرَاق"، للروائيين بدر ومحمد السماري، وهي رواية أولى ملأى بالشخصيات وبالصراعات المعلنة والخفية. إنها حقل تحالفات ومهادنات، مزروعة بشخصيات انتهازية مثل شخصية "جبل" وبلاعبين من خلف الكواليس كشخصية "فردوس"، وهناك أيضاً الصاعدون برافعة المال "كصملول" و"أبو ضاري" ومحايدون فاقدو الأمل كشخصية "طرقي" وكشخصية "فرج". يموت ابن طرّاق في المشهد الأول من الرواية، لكن بدلاً من أن يأفل نجمه بموته فإن المفارقة تتبدى في سلطته التي تغمر الرواية تماماً وتبدو شخصيته وقد سيطرت على النص وعلى كل أحداث الرواية. ابن طرّاق المليونير الكلاسيكي الذي لم يتخلَ عن ربطة الفلوس، ليس لأنه رجل لا يتجدد مع مظاهر أصحاب المال، ولكنها إشارة إلى مفاخرته بكلاسيكيته، ظل هو الرجل الذي يستطيع أن يسيطر على زمام الأمور ليس بماله فقط ولكن بالكاريزما التي يحملها. عباراته الفظَّة يتم التجاوز عنها، زيجاته المتعددة لم تخضع للتساؤل، وحتى نزواته كانت يتواطأ الجميع على كتمانها. لذا، فبعد رحيله نشأت الصراعات المعلنة داخل الأسرة وتقرب الطامعون من ثروته، وحاول البعض أن يكون شبيها به، لكنهم فشلوا جميعاً. تبدو شخصية "جبل" في رواية ابن طرّاق، وعلى مستوى الرواية السعودية، شخصية فريدة في تركيبتها ونموذجها، فهو ليس رجل التناقضات وليس الرجل المأزوم ولكنه الرجل الذي حاول أن يكون الرجل الأول في العائلة دون أن يمتلك الصفات المؤهلة لقيامه بذلك الدور ففشل في إقناع ذاته والآخرين، لكنه تجمل وحاول أن يكون البديل الجيد. فبعد رحيل والده وجد نفسه يتصدى لمهام كان ينتظرها ولطموحات كانت تتجمل في خياله والى مكاسب يحققها له هذا الرحيل، لكنه كان مجرداً من كاريزما والده ابن طرّاق ولم تكن سطوته سطوة أصيلة، ومع امتلاكه للمال تم إيهامه بأنه أصبح رجل المال والسطوة الاجتماعية، ذلك الوهم الذي يصوره كأنما هو"ابن طرّاق" آخر. لكن لو كان "جبل" قد خلق نموذجه الشخصي ولم يحاول التشبه بوالده لتحقق له القبول وما كان ليخفق هذا الإخفاق الذي يتعزز بمرور الوقت في الرواية. إن شخصية "جبل" قد تتشابه أيضاً مع شخصيتي "صملول" و "أبو ضاري" في حكاية الصعود الأعلى بالمال، لكنه كان أكثر ارتباكا بل وأكثر خراباً في داخله. وبينما يمثل أبو ضاري شخصية الرجل الأقل دهاء والأقل ذكاء في التعامل مع فرص المال، فإن صملول يبدو كرجل جاء من الأبواب الخلفية واستطاع أن يصل إلى أهدافه بمكر وذكاء وحُسن فطنة، لذا فهو من استثمر المال بحنكة وكان طموحا بما يكفي لأن يحصل على "فردوس"، التي لم تكن امرأة تزوجها فحسب، بل هي تشكّل دلالة على أن هذه اللحظة هي لحظته التي جنى فيها ما استثمره من مواهبه. في الرواية يتجلى نموذجان لفاقدي الأمل: يتمثل النموذج الأول في شخصية "فرج"، اللاعب الأسمر الموهوب الذي فقد أمله في نجومية الكرة بسبب الإصابة وتحطمت آماله في أن تحقق له الكرة مباهج الحياة، بينما يتمثل النموذج الثاني في شخصية "طرقي"، الذي ذهب للدراسة في لندن لكنه تعلق بغيداء الفتاة العراقية لولا أنّ ذلك العشق وتلك الطموحات العلمية تبخرت بسبب تدخل والده الذي أجبره على الرجوع. وإذا كان فرج يمتلك موهبة الكرة فإن طرقي لديه موهبة كتابة الشعر ومهارة عزف العود، لكن الفارق أن الموهبة لفرج كانت ستساهم في تغيير حياته بينما لطرقي كانت الموهبة ستضيف لهذه الحياة مباهجها الأخرى. فرج، بشخصيته المرحة والمتصالحة مع متغيرات الحياة، تنازل عن آماله وطموحاته ببراغماتية وعرف أن أدواره في الحياة تبدلت من دور النجومية إلى لعب دور الكومبارس ونجده مرة يتحالف مع جبل ومرة أخرى مع أبو ضاري ومرة ثالثة مع فردوس، وهو في تحالفاته هنا وهناك كان قادراً على أن يكون مبتهجاً ومتكيفاً وقانعاً بقدره في الحياة. أما طرقي فكان انكساره العاطفي مؤثراً، لذا فقد تحوّل إلى كائن انعزالي، يجرب أطياف من الممارسات والقناعات، فمرة يتنزه في الشعر والغناء، ومرة يصبح رجلاً متديناً، ومرة يمارس الملذات لا عن رغبة ولكن لكي يتجاوز إحساسه بفقد غيداء. ويحسب للساردان أنهما استطاعا أن يتفهما الفارق بين الموهبة الكروية والموهبة الإبداعية، لذا ففرج الموهوب كروياً كان انكساره أقل من طرقي الموهوب إبداعياً الذي تلبس حالة الموجوع تماماً. والمفارقة أن من قاد طرقي إلى كسر حاجز العزلة هو فرج عندما أرشده إلى أن لعبة الحب تشبه لعبة الكرة. حفلت الرواية بالعديد من الشخصيات النسائية ، لكن تظل شخصية " فردوس" هي أعمق تلك الشخصيات وهي الشخصية التي تنازعت مع جبل على استثمار غياب ابن طرَاق عن الحياة. شخصية فردوس تم رسمها في الرواية بكثير من الظلال التي تراوغ القارئ، فهي تجلب الريبة والتشكك، وهي النموذج الأكثر شغفاً بحياة الرفاهية مثلما هي أيضا التي استطاعت أن تكون لدى ابن طرَاق الزوجة الاستثنائية وأن تكون مميزة في ظل الزوجات الأخريات الكلاسيكيات. كما أنها استطاعت أن تحجم مطامع جبل في الاستئثار بالثروة. وكانت في حالة منطقية وهي تختار إكمال مسيرتها الحياتية مع صملول. أما الشخصيات النسائية الأخرى كلوزية وهنادي والعنود فكان حضورها الروائي إنما ليكشف الحياة الأخرى لابن طرَاق وجبل والثنائي صملول وأبو ضاري، وقد جاءت صياغة الحضور بهذه الملامح لتلك الشخصيات منطقية في السرد، فاللحظات الصاخبة التي يتجلى فيها حضور تلك الشخصيات لا يمنحنا رؤية جانبها الإنساني الذي يتم تغيبيه لصالح الحضور الأنثوي. لذا فإن حضورهن الهامشي في السرد جاء متناغماً تماماً مع حضورهن الهامشي في حياة الشخصيات الذكورية. أيضا تعمد الساردان إهمال نساء منزل ابن طرّاق، فقُدمت تلك الشخصيات في مساحات ضئيلة من السرد وهي ضآلة تتناسب مع أدوارهن في الحياة. والفارق في الرواية بين هامشية أدوار نساء اللذة في النص وضآلة أدوار نساء المنزل هو أن لوزية وهنادي والعنود، برغم تواجدهن في مسرح السرد، إلا إنه تواجد مختزل في دائرة اللذة. أما نساء المنزل فهن غائبات بحجة الأدوار الحياتية المحدودة، فيما عدا فردوس التي كانت نموذجاً مختلفاً ومغايراً. كذلك سنلاحظ أن الحب المرسوم في الرواية لم يكن ذلك الحب العميق ولا الحب الرومانسي، فحتى علاقة غيداء بطرقي كانت علاقة إنما تضخمت في خيالات طرقي. وقد جاءت نماذج حالات الحب في الرواية متناسبة ومتناغمة مع شخصيات الرواية، فابن طرّاق ليس رجل الرومانسيات الحالمة فهو رجل المال الذي لا يبدد وقته في عمق الغراميات وإنما يستثمر اللحظة بحسب نزواته. كذلك المتشابهون الثلاثة جبل، وصملول، وأبو ضاري هم أيضا يمثلون النسخة الرديئة من شخصية ابن طرّاق في التعاطي مع المرأة. وقد بدا رسم الحب بهذه الحالة، في تصوري، دلالة واعية من الساردان بتفهم متطلبات شخصيات الرواية. ورغم امتلاء رواية ابن طرّاق بكثرة الشخصيات إلا أن الساردين استطاعا الإمساك بتلك الشخصيات وصياغتها بنضج فني، إذ نجد في كل شخصية أقوالاً تدلنا على ملامحها، وأفعالاً تكشف لنا دوافعها، فكانت الشخصيات، لذلك، تتحرك بانسيابية في النص دون أن تطغى شخصية على أخرى ودون أن تتزاحم الشخصيات أو تتشابه. أيضا، فإن تغييب المكان كان مبرراً واستطاع الساردان الاشتغال على حكاية النص وترك المكان لنباهة القارئ. تميزت الرواية أيضاً بلغة الحوار الذي أظهر ملامح الشخصيات وعمّق حضورها في النص. ولعل ّاللافت للنظر أننا نجد في الحوار بذور فلسفة كل شخصية للحياة ولما يحدث في عوالم النص، كما يحسب للساردان أنهما ابتعدا عن النمطية التي تصاحب الرواية السعودية في الخطابية أو التصدي للظواهر الاجتماعية بحس وعظي إذ انحازا لنصهما الروائي بشخوصه وحكاياته وصراعاته. هذا، في اعتقادي، يجعل شخصيات الرواية قادرة على أن تعيش زمنا في ذاكرة القارئ. لذا فرواية ابن طرّاق تجربة روائية ناضجة ومفتوحة لتأويلات القارئ، وهي عمل يستحق القراءة والمساءلة والاهتمام لأنه يبشرنا بأن الرواية التي تكتب بشغف، تقرأ بشغف أيضاً.