يدفع الفقر الإنسان أحيانا أن يستثمر كل شيء، حتى جسده النحيل الذي أرهقه الجوع وقلة ذات اليد.. يتأكد ذلك المشهد بصورة واضحة خلال وقوفك في بعض شوارع العاصمة الإثيوبية أديس أبابا التي يستثمر بعض أبنائها حتى الطين الذي تخلفه مياه الأمطار ويكسو عددا من شوارع العاصمة حين يمسحون أحذية المارة، ويأخذون مقابل ذلك ما لا يتجاوز "أربعة برات" بعملة ذلك البلد! أديس أبابا تحاول هذه الأيام، وإن كان ببطء شديد، أن تنهض من سبات فقرها العميق الذي يرتهن لفصول قديمة وإرث ثقيل ارتبط فيه الإثيوبيون بكثير من المآسي والأحداث والحكايات الحزينة التي يرويها للأجيال كثير من اللوحات الفنية والمتاحف التي سجلت مقتنياتها ووثائقها تاريخا وحشيا مليئا بالدماء والجراح لشعب دفع كل شيء ثمنا للحصول على حريته. الشارع جوقة البسيط ورغم أن ملامح المدينة السمراء التي تحتشد فيها اليوم أكبر القوميات الإثيوبية، من أمهرك وأرومنيا وتغرينيا وغيرها، تكشف في شيء من صورها عن حالة من النهوض والاستيقاظ، خصوصا في ظل حرص إنسانها على تأكيد أهليته وشرعيته في تحقيق ذاته عبر تطوره ونموه، إلا أن مستقبل تلك البلاد لا يبدو مقنعا ما لم تتأكد حالة الاستيقاظ الحقيقي عبر مشاريع جادة ترتقي أولا وأخيرا بمواطنها البسيط الذي دفعه الفقر إلى أن يختار الشارع ليكون له بمثابة الجوقة التي لا يمل أن يطلق عبرها أناته وشكواه التي لا تهدأ. وتشهد العاصمة الإثيوبية نظير توفر كافة مقومات الحياة بها تدفق كثير من الإثيوبيين بمختلف مشاربهم إليها بحثا عن الحياة، وللأسف أن عددا منهم أثقلوا شوارع العاصمة الإثيوبية التي باتوا يقضون فيها معظم وقتهم بالتسكع والتسول، مما يثير حالة من الفزع والتوجس والخوف لدى المارة والسياح، رغم درجة الأمان التي تتمتع بها أديس أبابا وكثير من مناطق إثيوبيا، خصوصا أنه، وكما تروي أدبيات إثيوبيا السياسية، "لا أحد فوق القانون" الذي يحكم الجميع. وبدا أن للحكومة الإثيوبية جهودا ملموسة في مكافحة المتسولين في مناطقها، بدءا بالعاصمة، كما يقول أحد مواطنيها (ساسا)، "استطاعت الحكومة مع عدد من المنظمات غير الحكومية إعادة بعض المتسولين إلى قراهم، وبذل الجهود الحثيثة لمعالجة وضعهم من خلال توفير التعليم اللازم لهم وكذلك فرص العمل، كل بقدر مؤهلاته". بين تاريخين إثيوبيا اليوم، أو كما يطلق عليها قديما مع كل من الصومال وإريتريا "الحبشة" تعيش بين تاريخين، كما تروي لوحات وصور ومجسمات متحفها الوطني الذي يقع في قلب العاصمة أديس أبابا في شارع مميز قريبا من حي (بولي) الشهير والقريب من المطار الدولي. ويختزل المتحف الوطني الذي يعد من أكثر معالم تلك الديار حضورا في وجدان السائح الأجنبي على وجه الخصوص عشرات الصور والمجسمات والوثائق التي تحكي نضال ذلك الشعب الطيب وكفاحه في مواجهة الدموية والوحشية والبشاعة التي لم تفرق بين عرق وقومية ولون وديانة، فالكل أمام مقصلة الطغيان والفساد في ميزان واحد. لم يكن ثمن الحرية سهلا، كما تذهب جملة من المدونات والصور الفظيعة التي نجت من أيدي الطغاة، لتبقى شاهدا على الروح النضالية التي يتمتع بها الإثيوبيون وحجم وعيهم الثوري وكذلك ثقافتهم التي دحرت الخوف وبددت ليالي الظلام والقهر والمرض بأمسيات جديدة تألق فيها الإنسان الإثيوبي أيما تألق. وقد بات مألوف جدا أن ترى في إثيوبيا اليوم، كما تشاهد في شوارع لندن وباريس، مواطنا يحمل كتابه وقصيدته معه في كل مكان يذهب إليه. باتجاه فجر جديد ويرى أهالي إثيوبيا أن المرحلة التي يعيشونها اليوم تشرع نافذة فجرهم الجديد الذي طال انتظاره.. هكذا عبر أحد أبناء العاصمة الإثيوبية في تصريحه إلى "الوطن" بعد أن قلب صفحات كثيرة من الوجع تروي أصنافا من التعذيب والسحل، حيث لم تفرق البنادق والمشانق حينها بين طفل وشيخ وامرأة.. ولم ينج منها كذلك ناشطون في حقوق الإنسان وقبل ذلك الصحفيون.. وبالمجمل كل من يحمل ورقة وقلما أو يتلو قصيدة أو يعزف باتجاه الحرية. تعددية وتجانس لافت الشوارع نفسها التي ما زال الألم والحزن يرشح عبر عدد من زواياها تكشف عن حالة عجيبة من الانسجام والتماهي البشري بين جميع مكونات المجتمع الإثيوبي الذي يتجاوز اليوم سقف ال80مليون نسمة، بإثنيات لكل منها لغتها وثقافتها. ولعل الموسيقى والرقصات، وقبل ذلك الأزياء والطعام وحتى طريقة الغناء تشي بملامح تلك الصورة الربيعية. وقد استثمر أبناء إثيوبيا ذلك التنوع الثقافي ليقدموه في أكثر من مكان على شكل وصلات ورقصات فنية تجذب كثيرا من السياح والزائرين لها. ولا يتوانى الإثيوبي، حال كثير من سكان العالم، في تبكيره صباحا بحثا عن لقمة العيش، رغم قساوة الطقس وشراسته في بعض الأحيان، خصوصا في المناطق المرتفعة، حيث البرد القارس في مواسم معينة، تشهد فيها البلاد هطولا متواصلا للأمطار، الأمر الذي يحدث على وجه الخصوص في أشهر يونيو ويوليو وأغسطس، وقد يكتفي البعض فقط بغطاء وقطعة قماش يضعها على رأسه يكسر بها شراسة البرودة. الشوارع الرئيسة والفرعية التي تقطع أوصال إثيوبيا طولا وعرضا تكشف كذلك عن بساطة الحياة في تلك البلاد المترامية الأطراف، خصوصا داخل القرى، فليس للبشر أن يحرموا البقر والحمير والماشية وحتى الكلاب أحقيتها في الطريق، بل على قائد المركبة أحيانا أن يتوقف لدقائق احتراما لحمار ثقل به الحمل، أو آخر أرهقه المرض وتوقف في منتصف أحد الطرق السريعة باتجاه مدينة أواسا العاصمة الإقليمية جنوبأديس ابابا والتي تقع على بحيرة أواسا، أو "هرر" ناحية الشرق. المنازل والعشش الصغيرة المبنية من أعواد وأغصان الأشجار والتي تتميز بها إثيوبيا، كما هو الحال في كثير من بلدان أفريقيا، ما زالت تنقل صورة المواطن الإثيوبي البسيط الذي يعيش مع الطبيعة طيلة يومه، منذ بزوغ الشمس وحتى الغروب، وربما يكتفي بموسيقى الطبيعة من حوله، حيث حفيف الأشجار المتواصل، وتغاريد الفجر الذي يعج بالحياة بمجرد بزوغ الشمس. "الوطن" تحدثت هناك إلى عدد من المواطنين الذين قالوا إنهم يستخدمون تلك المنازل الصغيرة، خلال مواسم الحصاد حيث يتم جمع الأرز والذرة وقطف الفاكهة، وجمعها في تلك المنازل إلى حين توزيعها في الأسواق المحيطة. غنائية متفردة يتميز الإثيوبي، وربما يتفوق كعادة كثير من سكان القارة السمراء على غيره بغنائيته وصوته المتفرد حين يجسد فصوله الحياتية، و"يمسرح" همه الاجتماعي حين يضرب على آلة ال kabero (الكابرو) وهي أشبه بالدرم، وكذلك الwashent (الواشنت) الذي يشابه ال(الناي) ودائما ما تجده يعزفه، ويتحكم به بطريقة تجذبك لسماعه حتى ينتهي. الرقصات لدى الإثيوبيين مثلها مثل الملابس، تتمايز بما يمثل ما لا يقل عن 80 قومية تختلف ديانة، ولغة، وثقافة وطريقة حياة تستوطن جميعها تلك البلاد. وربما تكون رقصة ormagna ال"ارومنيا" من الرقصات المذهلة، بما تختزله من تعابير، وهي تلفت كل من يشاهدها، ليس فقط لطبيعة الموسيقى التراتبية الراقصة التي تقدم بها، ولكن لصعوبة وسرعة حركاتها التي تتطلب مخزونا لياقيا عاليا، خصوصا حين يحرك الراقص رأسه بطريقة سريعة للغاية تشعرك بأن رأسه سوف ينفصل عن بدنه! ويقدم الإثيوبيون كذلك ما يسمى برقصة ال gurgna (قورقنا)، حيث يستخدم الراقص هذه المرة يديه وقدميه بطريقه لافتة حين يترك لهما العنان لتتحركا إلى الأمام والخلف بإيقاع متناغم ومنتظم لا يجيده سوى سكان تلك البلاد الجميلة. ولا تبعد رقصة الtigergna (تقرينا) كثيرا عن سابقتيها، ولا جدال أن تلك الموسيقى والرقصات تحمل من التعابير والإيحاءات ما يصعب وصفه، وقد لا يملك الواحد منا نفسه وهو يستمع إلى تلك الموسيقى أن يتمايل بطريقة –يقينا- أنها لا تشبه أيا من تلك الرقصات الرشيقة. طبيعة بكر ربما بكلمة "بكر" فقط يمكن أن نصف طبيعة تلك البلاد الآسرة المخضلة الربا أينما يممت وجهك .. من شمالها وحتى أقصى الجنوب الذي يقارب كينيا، ومن شرقها إلى أن تصل لحدود السودان غربا، حكاية لا تنتهي، اسمها "الطبيعة"، يتحرك في ظلال أشجارها المتشابكة الإثيوبيون بمختلف انتماءاتهم، يجمعهم فجر واحد، ويفرقهم الغروب.. بعربات تجرها الخيول والحمير تملئ الشوارع طولا وعرضا.. المزارع يخرج من منزله الصغير بما جادت به مزرعته البسيطة المفتوحة على الفضاء الأخضر حوله، يقدم المانجو والموز والعسل وقصب السكر و الباباي وغيرها من نعم الله التي رزقت بها تلك البلاد. كل ذلك إضافة إلى كون إثيوبيا تمثل أكبر بيئات العالم احتضانا للطيور بأنواعها وألوانها، من اللقلق ومالك الحزين والبط البري والغاق والأوز والقمري بألوانه التي يصعب حصرها، كما تنتشر فيها مزارع البن التي وضعت إثيوبيا في مقدمة الدول المنتجة له حول العالم. وقد يستفزك السؤال هنا: لماذا في بلاد تملك كل هذه المقومات الطبيعية، وقبل ذلك البشرية ما زال الإنسان يشكو مرارة الجوع والفقر؟ سؤال يفترض أن يكون هاجس كل من يقوم على صناعة التنمية في تلك البلاد ورسم مستقبلها، فليس أكثر من الأيدي العاملة فيها، وليس أصلب عودا، وأكثر قدرة للتحمل من أبنائها، والأهم من ذلك أراضيهم الخصبة التي تجود بكل أنواع الخضار والفاكهة، والتي يغذيها طقس ماطر لفترات طويلة. ويبدو أن الوضع السياحي لا يقل سوءا –كما بدا- عن الوضع المعيشي للأهالي رغم كل الجهود التي تبذلها الحكومة والمنظمات التي تنتشر كثيرا في إثيوبيا، خصوصا إذا ما نظرنا إلى حجم تلك الجغرافية الخضراء المترامية، والتي تتميز كذلك بوجود عدد من الأنهر والبحيرات المتناثرة في أكثر من مكان، كما هو الحال في منطقتي اوسا في الجنوب، ومدينة بحر دار في أقصى الشمال، والتي لا تخلو من وجود منتجعات وفنادق، إلا أنها لا تعد جاذبة، رغم نظافة وجمال البعض منها إذا ما نظرنا لضعف الوعي السياحي لدى الحكومة نفسها وكذلك القطاع الخاص، حيث تقل البرامج السياحية في نفس القنوات الإثيوبية، فيما تغيب الدعاية المقنعة في عدد من الصحف والمجلات الشهيرة التي تصدر في إثيوبيا، الأمر الذي يفترض أن يفتح المجال لكثير من الشركات العالمية، وقبل ذلك المحلية لتشجيعها وتسهيل المجال لها للاستثمار في تلك المناطق البكر. ولا يقتصر الأمر فقط على العاصمة والتي يتجلى تمركز مشاريع التنمية بها أكثر من أي منطقة من مناطق القرن الأفريقي، الأمر الذي جعلها، كما يشير عدد من المؤشرات التنموية، ثاني أكبر عاصمة أفريقية نموا. ---تعليم جيد وثقافة واسعة يدهشك شباب وشابات إثيوبيا اليوم، خصوصا في أديس أبابا، بمستوى ثقافتهم وقدرتهم على تحدث الإنجليزية بطلاقة حيث يتفوقون في هذا الجانب على كثير من سكان الدول الآسيوية، وما لم يكن لديك ثقافة عامة ولغة جيدة فلن يكون بمقدورك أن تذهب بعيدا مع أي من أولئك الشباب الذين يتلقون اليوم دراستهم في أعرق الجامعات الإثيوبية، وتجدهم يستغلون مواسم السياحة للعمل كمرشدين أو مترجمين أو سائقين. يقول (جت) وهو شاب إثيوبي في العقد الثاني من عمره يعمل سائقا مع مجموعة سياحية، إنه طور قدراته في التعامل مع الآخرين من خلال كثرة القراءة، خصوصا في مدونات الدول التي يحرص سكانها على زيارة إثيوبيا. وعن الفقر الذي يكشف عن نبرته العالية كثير من شوارع إثيوبيا يقول جت "إن الفقر موجود في كل مكان"، مؤكدا من وراء نظرة فلسفية معمقة "أن الفقر الحقيقي يظل في عقل الإنسان، وليس في جيبه، والمهم أن يسعى المرء لتغيير حياته". وتدفع الظروف –كما يروي جت- الفتاة الإثيوبية للخروج للعمل مبكرا، حيث إنها عادة ما تكون مسؤولة عن عائلتها المكونة من خمسة أفراد أو أكثر. السائح الخليجي ليس كما يحدث في مصر، خصوصا قبل الثورة، ولا حتى في كثير من الدول العربية كالأردن وسورية التي تعيش هذه الأيام ظروفا استثنائية، يقتصر اهتمام الخليجيين في الاستفادة من مقومات تلك البلاد في جانب العمالة والتجارة، أكثر من السياحة والاستجمام، رغم تميز عدد من مناطقها مثل أواسا وبحر دار ودبر زيت وهرر وغيرها. وقال ل"الوطن" المستثمر السعودي سامي الدايل الذي يملك شركة سيارات إنه استهدف الاستثمار في إثيوبيا نظير التسهيلات التي تقدمها الحكومة لكل مستثمر أجنبي، إضافة إلى رخص العمالة وتوفرها. وأكد الدايل أن السعوديين يأتون في مقدمة قائمة المستثمرين الخليجين في إثيوبيا. ونادرا ما ترى خليجيا أو حتى عربيا يجاورك ذات الغرفة التي تسكن بها في أحد الفنادق أو المنتجعات الريفية، بحثا عن الطبيعة والتأمل في محرابها، باستثناء محبي وعشاق الاكتشاف في مجاهيل تلك البلاد المترامية، وعادة ما تجد بين الزائرين لتلك البلاد هواة الصيد الذين يجدون ضالتهم في كثير من المناطق المحددة للصيد بطريقة منظمة.