شهدت العلاقات السورية التركية في الفترة الأخيرة توتراً وتراجعاً ملحوظاً بسبب الموقف الذي اتخذته تركيا من الاضطرابات في سورية والسماح لآلاف النازحين السوريين بدخول الأراضي التركية وتوفير الملاذ الآمن لهم. هذا الموقف التركي صاحبه تصعيد واضح في الخطاب التركي تجاه النظام في سورية ومطالبته بتطبيق إصلاحات سريعة وحقيقية تتيح للشعب السوري حرية التظاهر وتحقق مطالبه دون اللجوء إلى الحل الأمني الذي أودى بحياة مئات السوريين حتى الآن. ومع أن الرئيس السوري بشار الأسد أرسل مبعوثاً خاصاً لمقابلة رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان، إلا أن استياء الصديق القديم للأسد بدا واضحاً عندما لم يسمح لأجهزة الإعلام بتصوير اللقاء. وفي تطور آخر، سمحت السلطات التركية مؤخراً لأجهزة الإعلام الدولية بزيارة مخيم اللاجئين السوريين على حدود البلدين بعد أن كانت قد حظرت ذلك في الفترة السابقة تفادياً لإحراج سورية. وقد نشر "معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى" في يونيو الحالي دراسة تحليلية لتطور العلاقات السورية التركية في العصر الحديث. يقول كاتب الدراسة ديفيد شينكر إن العلاقات التركية السورية اتسمت خلال الجزء الأكبر من القرن الماضي بالتوتر بسبب النزاع الحدودي المستعصي بين البلدين، ومشكلة المياه، وتأييد دمشق لجماعات كردية مسلحة كانت تشن هجمات عبر الحدود على الأراضي التركية. وكاد ذلك الصراع أن يتطور تقريباً إلى حرب في عهد الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، وذلك بسبب دعم الأخير لحزب العمال الكردستاني وتقديمه الملاذ الآمن لرئيسه عبدالله أوجلان. ومع أن علاقات البلدين شهدت تحسنا في نهايات حُكم الرئيس الأسد (الأب)، إلا أن العلاقات بين البلدين لم تتطور على نحو جذري إلا بعد تولي بشار الأسد السُلطة في سورية عام 2000، ومن ثم انتخاب حكومة ذات جذور إسلامية في تركيا بقيادة "حزب العدالة والتنمية" عام 2002. ومع ذلك، فمن المفارقات أنه بينما مهَّد الانتقال السياسي الطريق للتقارب قبل نحو عقد من الزمن، إلا أن احتمالات التغيير في سورية في الوقت الراهن هي التي تهدد بتقويض أسس التحالف الوليد بين دمشقوأنقرة. يضيف ديفيد شنكر أن الوضع الحالي على الحدود السورية التركية يُسلط الضوء على العلاقات المتدهورة بين البلدين. فخوفاً من وقوع مذبحة أخرى ترتكبها حكومة دمشق، يتدفق مئات السوريين المدنيين إلى داخل الأراضي التركية، وهو تطور سيؤدي على الأغلب إلى تفاقم التوترات ويدفع أنقرة إلى اتخاذ موقف أكثر تشدداً من دمشق، ومن ثم زيادة عزلة نظام الأسد في النهاية. إن التحول في سياسة تركيا يمكن أن يعطي واشنطن والدول الغربية الفرصة لتبني موقف أكثر حزماً بشأن سورية. سرعة في الصعود كانت سرعة تطور العلاقات السورية التركية، بعد سنوات عديدة من العداء بين البلدين، ملفتة للنظر بكل معنى الكلمة. فبين عامي 2002 و2009، أبرم البلدان ما يقرب من 50 اتفاقية تعاون بينهما، وأعلنا عن إنشاء "المجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي" وأجريا أول مناورات عسكرية مشتركة في تاريخهما. وفي عام 2010، وقعت تركيا وسورية اتفاقية تاريخية لمكافحة الإرهاب وأتبعتاها، بعد نحو شهرين فقط، بمعاهدة لمكافحة التمرد. وبحلول عام 2011 كانت تركيا قد أصبحت أكبر شريك تجاري لسوريا. وقد كانت العلاقات بين البلدين مُبشرة إلى درجة كبيرة بحيث أن وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو كان قد صرح في عام 2009 بأن الدولتين تشتركان في "مصير وتاريخ ومستقبل مشترك". وتكرر مسار علاقات تركيا الناشئة مع دمشق من خلال صلاتهما المزدهرة مع المنافس الإقليمي السابق، الجمهورية الإسلامية الإيرانية، مما سهل تطبيق سياسة خارجية تتبع نهج "تفادي المشاكل مع الجيران". وربما ليس من المدهش أن يتزامن تنامي علاقات أنقرة مع هاتين الدولتين، اللتان تعتبرهما الولاياتالمتحدة داعمتين للإرهاب، مع تبريد العلاقات التركية مع كل من واشنطن وتل أبيب. وسرعة في الهبوط كانت الأمور تسير بشكل إيجابي متسارع إلى الأمام، إلى أن وصلت شرارة "الربيع العربي" إلى سورية. عندئذ شهدت العلاقات بين دمشقوأنقرة تدهوراً بنفس السرعة التي كانت قد تحسَّنت بها. لم تصدر عن تركيا انتقادات للموقف السوري في بداية الأمر، ولكن عندما تزايد عدد القتلى من بين المحتجين المدنيين الأبرياء في سورية، خرجت تركيا عن صمتها إزاء التطورات التي بدأت أساساً تحدث في مدينة درعا جنوب البلاد. وفي مارس، أعلن رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان أنه كان "من المستحيل أن نبقى صامتين في وجه هذه الأحداث". وبإشارته إلى أنه كان بالفعل قد تحدث مع الأسد مرتين، صرح إردوغان أنه كان يأمل أن يتبنى الأسد "نهجاً إيجابياً وإصلاحياً" لتجنب تكرار "الأحداث المؤلمة" في ليبيا. وفي أبريل، أرسلت تركيا وزير خارجيتها داود أوغلو لمقابلة الأسد في دمشق حيث عرض عليه "كل مساعدة ممكنة" لتنفيذ الإصلاحات التي تعهد بها الأسد للمساعدة على تثبيت استقرار سورية وتأمين النظام. ولكن كل ذلك لم يُجدِ نفعاً. وأخيراً في مايو، ومع تصاعد الفظائع اليومية، صرح إردوغان علناً عن وقوف تركيا إلى جانب المحتجين الذين وصفهم بأنهم قد انخرطوا في "كفاح من أجل الحرية". وحذَّر إردوغان النظام السوري قائلاً "لا نريد أن نرى مجزرة أخرى مثل تلك التي وقعت في حماة"، في إشارة إلى الأحداث التي جرت في عهد نظام حافظ الأسد في مدينة حماة في شهر فبراير من عام 1982، التي ذهب ضحيتها آلاف الضحايا المدنيين الأبرياء. وفي حين أشاد المحتجون السوريون بموقف إردوغان، هاجمت الصحافة الحكومية السورية موقف أنقرة واعتبرته منافقاً و"متسرعاً ومرتجلاً". الموقف التركي بين المبدأ والسياسة ليس من الواضح ما السبب الذي استحث السياسة الخارجية الأخلاقية المفاجئة التي اتخذتها تركيا. وكان رئيس الوزراء التركي إردوغان قد هنَّأ علناً الرئيس محمود أحمدي نجاد على إعادة انتخابه في الانتخابات المثيرة للجدل في عام 2009، كما أنه لم يُعلق عندما قمع النظام في طهران المظاهرات السلمية التي أعقبت تلك الانتخابات بقوة مميتة. وعلاوة على ذلك، وفي وجه الفظائع الواضحة التي ارتكبها العقيد الليبي معمر القذافي بحق شعبه، عارضت أنقرة، على الأقل في البداية، مهمة منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في ليبيا. وربما كان موقف إردوغان غير المسبوق تجاه سورية متأثراً بالسياسات الانتخابية. فقد كانت تركيا تقف على أبواب انتخابات نيابية (جرت في 12 يونيو)، وبالتأكيد كان "حزب العدالة والتنمية" يدرك أن الأحداث في سورية هي مسألة مثيرة لعواطف الناخبين، وبالتالي قد يكون قرار التغيير في سياسة أنقرة قد اتخذ خصيصاً من أجل أن يستثمره إردوغان سياسياً. ويُشير الاستغلال الواضح من قبل إردوغان في قضية أسطول "الحُرية" حول تقديم المساعدة إلى قطاع غزة في مايو 2010، إلى أن هذا النوع من الاستغلال للمشاعر الشعبوية ليس مستبعداً عند حزب العدالة والتنمية. ومن ناحية ثانية، فحتى بالنسبة لحزب العدالة والتنمية من الممكن أن يكون التصعيد الأمني في سورية قد تخطى بصدق ما يمكن قبوله. وبالنسبة للإسلاميين السُنة في أنقرة، من المرجَّح أن تكون فكرة إمكانية قيام النظام العلوي في دمشق بقتل ألف سُني أمر غير مقبول. فمع أن القذافي قتل آلاف الليبيين السُنَّة في أوائل هذا العام، وهو أمر مزعج للغاية، إلا أن مرتكبه على الأقل من الطائفة السُنية، ومن ثم فإنه لم يثر نفس الغضب في أنقرة. وينطبق الشيء نفسه على الأعمال الوحشية التي قام بها النظام في إيران ضد المحتجين على الانتخابات، حيث إن بعض الإسلاميين السُنة ربما يعتبرون موت الشيعة على يد إخوانهم الشيعة أمراً لا يدعو إلى الكثير من القلق. وربما يكون حزب العدالة والتنمية حزباً انتهازياً فقط، بحيث يأمل أن توفِّر نهاية النظام العلوي في دمشق فرصة لكي يصل إلى السُلطة نظام ذو تفكير إسلامي مماثل لفكره في هذا البلد المجاور. وبغض النظر عن السبب الحقيقي الذي جعل أنقرة تغيِّر نبرتها تجاه الرئيس السوري بشار الأسد، إلا أن هذا التطور أمر يرحب به الغرب بكل تأكيد. فبدون تركيا يكون الأسد في الوقت الراهن أقل حصانة وأكثر عرضة للضغوط الخارجية، كما يكون النظام السوري أقل أمناً. وبالفعل لا تبتعد تركيا فقط عن نظام الأسد بل تتطلع إلى المساعدة على تنظيم من سيخلفه. فمنذ فترة، وفي خطوة جريئة واستشرافية للمستقبل، استضافت تركيا مؤتمراً للمعارضة السورية على أراضيها، كان بمثابة تصريح واضح من جانب حزب العدالة والتنمية بأنه قد اعتبر بأنه ليس هناك سبيل لإصلاح الأسد. وبجهدٍ قليل وحظ أوفر سوف تحذو واشنطن حذو تركيا في قيادتها لهذا التغيير.