في البداية كانت أحداث تونس ومصر، ومن بعدها امتد الربيع العربي ليصل الى عدد من الدول الأخرى، وإن بدا أن حكومة العدالة والتنمية التركية قد واجهت صعوبات في اتخاذ موقف محدد من تلك الأحداث وتلك الثورات، فأنه واضح تماماً أن الامتحان الأصعب للديبلوماسية التركية كان في القضية السورية. سورية هي البلد التي تشارك تركيا حدودها البرية الأطول، وتجمع البلدين علاقات قرابة وتاريخ مشترك، وفي عهد حزب العدالة والتنمية الحاكم، تم توطيد هذه العلاقات في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية لدرجة إلغاء التأشيرات بين البلدين وضمان حرية المرور، وعاشت العلاقات ربيعاً خاصاً في جميع النواحي لمدة بلغت نحو 8 سنوات، لكن ومع بدء الانتفاضة الشعبية في سورية في 15 آذار (مارس) بدأت هذه الأجواء تتبدد. رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان رجل معروف في الشرق الأوسط بمواقفه وتصريحاته، وخصوصاً في ما يتعلق بوضع غزة كانت له تصريحات ومواقف قوية ضد إسرائيل، وهذا جعل منه قائداً يهتم الجميع بسماع ماذا سيقول. وفي ما يتعلق بالربيع العربي، كان لأردوغان موقف مهم تجاه ليبيا ومصر، وحتى لو جاء هذا الموقف متأخراً أو بعد تردد، فأن أردوغان صرح وأوضح بأن على الزعيمين حسني مبارك ومعمر القذافي الرحيل، لكن في ما يتعلق بالأزمة السورية فأن السؤال الأصعب الذي كانت تركيا تبحث له عن جواب هو أين وكيف ستقف أنقرة من الأزمة السورية؟ «حزب العدالة والتنمية» و«الإخوان المسلمون» على رغم الربيع الذي طغى على العلاقات بين أنقرة والنظام السوري، فأن جميع القيادات في تركيا كانت على علم جيد بحقيقة الوضع السوري، وأن أقلية حاكمة تستفرد بالحكم فيما الغالبية الشعبية مهمشة وغير مشاركة في الحكم أو صنع القرار، وأن هذا الأمر طال أم قصر سيؤدي بالنهاية الى انتفاضة الشعب، ويمكن القول بأن كلاً من رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان والرئيس عبدالله غول ووزير الخارجية أحمد داود أوغلو وهم جميعهم أصحاب خبرة في شؤون العالم الإسلامي، كانوا يتوقعون بل يدركون أن ساعة النظام السوري ليست بعيدة. تأثر جميع الشباب المنتسبين الى حركة «النظرة القومية» التي أسسها نجم الدين أربكان في شبابه، تأثروا جميعهم بالتيارات الإسلامية في العالم العربي وبالأخص بحركة الإخوان المسلمين التي أنشأها حسن البنا، وعلى رغم حصول انقطاع في التواصل بين حركة الإخوان وتركيا في فترة ما، إلا أن القيادات السياسية في تركيا اليوم تتابع عن قرب – وربما أقرب مما يظن كثير من العرب – أخبار وتطورات هذه التيارات الإسلامية في العالم العربي وما تمر به من مراحل وظروف. ولكن حزب العدالة والتنمية يبرز دائماً تجربته السياسية مشيراً الى أنه حزب سياسي وليس تياراً أو جماعة، وحتى إن نظرت قيادات حزب العدالة والتنمية الى تيار الإخوان المسلمين نظرة مودة وقرب، فأن هذه القيادات تؤكد وتعتقد أنها متقدمة على تلك التيارات بثقافتها وتجربتها السياسية. مع انطلاق الاحتجاجات على الأرض في سورية سارعت أنقرة لتنصح بشار الأسد بتطبيق إصلاحات سياسية جذرية وحصرت موقفها في هذه الجهود، وأن كان جميع من تحدثت اليهم من قيادات حزب العدالة والتنمية قد أبدوا تشككهم في تنفيذ وتطبيق الأسد لتلك الإصلاحات، أو في أن تطفئ هذه الحزمة من الإصلاحات نار الثورة التي اندلعت ضد حكم الأسد. على رغم ذلك فضلت أنقرة في البداية أن تقف موقفاً حذراً مما يجري. لكن العرب السنة كانوا يطالبون تركيا بممارسة ضغط شديد على نظام بشار الأسد تكون له نتائج قوية وفاعلة، بدلاً من إعطائه دروساً في الديموقراطية ونصائح في تطبيق الاصلاحات، ويمكننا أن نستشف من المعارضة السورية التي أقامت في تركيا، أن توقعاتها من تركيا كانت كبيرة، وأنها تعتقد بأن تركيا قادرة على فعل شيء قوي على الأرض ضد نظام الأسد. وإن شددت أنقرة من ضغوطها وتصريحاتها ضد دمشق من وقت الى آخر، فإنها لا تزال حذرة تجاه أي خطوة الى الأمام، وذلك لعدة أسباب أهمها الدور الحيوي والمهم الذي تلعبه تركيا في ملف حزب العمال الكردستاني، والسبب الثاني هو حذر تركيا في التعامل مع حامي النظام السوري في المنطقة أي طهران التي لا تريد تركيا أن تدخل في مواجهة مباشرة معها بسبب سورية. التنافس مع إيران تدرك تركيا جيداً أن تدهور الأوضاع الأمنية في سورية قد ينعكس سلباً على تركيا وأمنها، لكنها في الوقت نفسه قلقه من أن تجد نفسها في صراع مع إيران بسبب الأزمة السورية. وهناك حقيقة واضحة تقول بأن كل خطوة تتخذها أنقرة باتجاه الضغط على نظام الأسد، فأنها تقربها أكثر من الصدام مباشرة مع طهران، إن التنافس التركي الإيراني على طهران انتهى بهزيمة اياد علاوي المرشح الذي دعمته أنقرة في الانتخابات التشريعية على رغم فوزه في الانتخابات، وهي خسارة محدودة بقيت ضمن العراق، لكن التنافس التركي الإيراني على سورية، ستمتد نتائجه الى دول المنطقة لتشمل العراق ولبنان وإسرائيل أيضاً، بل وتمتد الى كل من له حسابات سياسية في الشرق الأوسط. وفي حين تم الضغط على طهران بسبب ملفها النووي وظن الغرب أنه حصرها في الزاوية، تحركت أنقرة بشكل مفاجئ ومثير لتقف الى جانب جارتها وتخفف عنها الضغط الدولي، لكن هذا التعاون وهذه الروح لم تترجم الى تعاون إقليمي ولم توقف التنافس بين الدولتين ليس فقط في ما يخص قضايا الإقليم وإنما أيضاً في ما يخص قضايا العالم الإسلامي أيضاً، والسؤال بقي حول ما إذا كان ومتى سيتحول هذا التنافس الى مواجهة وصراع. إن الخيارات المتوافرة أمام أنقرة جميعها شائكه، فتركيا تعلم أنه إن طال الوقت أو قصر فأن النظام السوري لن يتمكن من الصمود وستتم الإطاحة به وسيتشكل نظام جديد، وهنا تريد أنقرة أن تكون شريكاً قوياً في تشكيل صورة ولون النظام الجديد الذي سيولد في سورية، لكن من أجل ذلك على تركيا أن تلعب بعض الأوراق وأن تتجرع مرارتها، فتصعيد حزب العمال الكردستاني هجماته العسكرية ضد تركيا يشير بوضوح الى أن تركيا ستدفع ثمن تحركاتها ضد النظام السوري. في المقابل فأن هناك قنوات اتصال تمكن أنقرة من إقامة علاقات قوية ووطيدة مع المعارضة السورية، فحتى وإن لم يكن هناك تماس مباشر ودعم رسمي، فأن تركيا فتحت أراضيها للمعارضة السورية من أجل العمل وتوحيد الصفوف. إن حزب العدالة والتنمية الحاكم حصل على 50 في المئة من الأصوات في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وغالبية تلك الأصوات كانت من الشارع السني الإسلامي والمحافظ، لذا فان الحكومة تجد نفسها ملزمة بالوقوف الى جانب الشارع والشعب وليس الأنظمة في حال وقوع الثورات في الدول العربية. والأهم من ذلك أن الفلسفة التي قام عليها الحزب تؤمن بذلك أيضاً، وبالتأكيد فإن قادة «العدالة والتنمية» لن يقفوا الى جانب الأقلية الحاكمة في سورية والتي تقتل شعبها، ويجب أن ننتبه جيداً لتصريح نائب رئيس الوزراء بولنت ارينش القيادي المعروف في الحزب والذي انتقد بشدة الدعم الإيراني لنظام الأسد في «قتله لشعبه». وكما قلت فان تركيا اليوم بين نارين، فهي تخشى دعم الثوار بسبب مشكلتها الكردية مع حزب العمال الكردي، ومن ناحية أخرى فأن تركيا ستفقد كل ما لها من سمعة وثقل في المنطقة إن هي لم تقدم لشعوب المنطقة الدعم والعون اللازم. إن من مصلحة تركيا دفع سورية الى الديموقراطية بأي شكل كان وبأسرع آلية، لكن المشكلة هي كيف سيتم ذلك من دون الوقوع في أحد الأفخاخ التي تنصبها قوى إقليمية في المنطقة. * صحافي وكاتب تركي