يُعرّف العلماء استشراف المستقبل بأنه التبصر بالشؤون المستقبلية لمجتمع معين من المجتمعات من حيث موقعه في المجتمع الدولي، وما يؤول إليه حال البشر في ذلك المجتمع. ولم يغب ذلك الاستشراف عن وعي المجتمعات القديمة التي كانت لها طرقها ووسائل استشرافها على الرغم من بدائيتها وبساطتها حتى اقترنت بعوالم السحر والخرافة والتنجيم، وهي على الرغم من ذلك إلّا أنها كانت في نظر شعوبها وسائلهم في الحصول على المعرفة بالغيبيات. وإذا كانت تلك النظرات الاستشرافية مجرد توقعات واحتمالات ممكنة التحقق فإن القائلين فيها لم يذهبوا إلى القول بيقينيتها في الحصول، بل بقيت ضمن أطر الفرضيات الممكنة من مثل استشراف عالم الصناعة أو الجهود العلمية في معالجة بعض أمراض البشر المزمنة، فكان الاستشراف وفق ذلك من متطلبات الحياة، وضرورة استمرار الوجود، فأصبح الاستشراف ينطلق من معطيات الواقع ويؤسّس فرضياته عليه. ولقد فتح البحث في المجال العلمي الباب على مصراعيه لظهور أدب الاستشراف. الذي كان فيه الخيال العلمي المفتاح للولوج إلى عوالم الغيب، فالخيال العلمي هو نتاج تفتّق الذهن البشري وما أنتجه العقل الجمعي بنتيجة الإمكانات العلمية التي قامت على الحقائق التي قدّمها العلم، ليضيف إليها الخيال ما يمهّد الطريق لاستشراف الأفق المستقبلي الذي يجعل منه إمكانات متحققة في ذهن الناس، وبذلك بدا كثير من التنبؤات حالات من الجنون والهرطقة الفكرية في أوانها، ولكنها مع التقدم الزمني تحولت إلى وقائع وأحداث حقيقية، وقد قدّم أدبنا ذلك على شكل أسطوري، فرمز (المارد) و(الجني) في حكايات ألف ليلة وليلة الذي يخرج من قمقمه فيتحول إلى قوّة خلاقة وطاقة سحرية تفعل المستحيل، فحقيقة الأمر ما ذلك الرمز إلا تأكيد يشي بأن تحرر الإنسان من إرثه الماضي إنما هو القمقم الذي يحدّ من قدرته وقيد يكبل طاقاته، ولذلك فإن من شروط الإبداع الحرية التي تتجلى بمظاهر القدرة على انعتاق الفكر من كل ما هو متوارث وتقليدي ليستطيع التحليق بأجنحة الخيال ليجوب أفق المستقبل باستشرافه له وقد حلق الأدباء العرب في تلك الآفاق محاولين الانعتاق من أسر الواقع، وما يكبلهم به من قيود اجتماعية وجدوا فيها كوابح لطاقات إبداعهم، فحاولوا أن ينعتقوا من أسر الواقع من خلال استشرافهم المستقبل، فراحت أقلامهم ترسم مدناً فاضلةً، وتقيم مجتمعات من المثل والقيم العليا، غير مبتعدين كثيراً عن واقع مثقل بالألم والانتكاسات، فحللوا الواقع بعين ناقدة وبصيرة نافذة متسلّحين برؤية سباقة للزمن، ولكنها غير منفصلةٍ عن المكان، رؤية يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي، مثلما يتواشج فيها العاطفي والعقلي، ويتماهى الخاص بالعام، ويتدرج الماضي إلى الحاضر يمدّه بتجاربه واستناداً إلى وقائع متحقّقة لتكون الأساس الذي يُبنى عليه الحاضر وهو يستشرف من نافذة الحاضر أفق المستقبل مستشرفاً آفاقه الأجمل.