يعد كتاب الاعتبار أحد الشواهد المهمة على فترة من أرهب الفترات التاريخية في حياة أمتنا العربية الإسلامية، أعني فترة الحروب الصليبية. فهو يجسد وثيقة تاريخية قلّ نظيرها في مرحلة الصراع الإسلامي الصليبي، فجاء ثريا في مادته العلمية ولهذا عُني به الغرب حديثا، فترجموه إلى غير لغة من لغاتهم؛ لما فيه من تنوع في الرؤى بين: السياسية والاجتماعية، والاقتصادية، الممتدة على مساحة زمانية ومكانية رحبة، المعتمدة على الخبرة والتجربة والمعاينة واستدعاها من الذاكرة، تمثلت فيها درجة عالية من النضج والموضوعية والصدق. ولعل من أهم القضايا السياسية التي طرحها ابن منقذ في كتابه، بطريقة غير مباشرة، ما أتاح للمتلقين مساحة واسعة من التأويل والاستنتاج، صورة الآخر، الإفرنج. فقد قدم لنا ابن منقذ جوانب مختلفة من هذه الصورة، من أبرزها فروسية الإفرنجي، المتمثلة في شجاعته، وشدة بأسه، وإتقانه فنون القتال من رمي وطعن، وخدعة في الحرب. يقول ابن منقذ في ذلك "... بينما نحن نسير، إذ فارس مقبل من صدر البرية، فجاء يسير حتى صار بالقرب منا، فقال: خلوا عن الجمال، فصحنا عليه وشتمناه فأطلق حصانه علينا، فطعن منا فارسا ورماه عن فرسه وجرحه فطردناه فسبق ثم عاد إلينا، وقال خلوا عن الجمال فصحنا عليه وشتمناه، فحمل علينا، فطعن رجلا منا أوثقه بالجرح، وتبعناه فسبقنا، ثم عاد وقد بطل منا رجلان، فأطلق علينا، فاستقبله رجل منا، فطعنه صاحبنا، فوقعت الطعنة في قربوس سرجه، فانكسر رمح صاحبنا، وطعنه الفارس، فجرحه، ثم حمل علينا، فطعن رجلا منا فصرعه، وقال خلوا عن الجمال وإلا أفنيتكم، قلنا: خذ نصفها، قال: لا احبسوا منها أربعة. اتركوها وقوفا، وخذوا أربعة وامضوا، ففعلنا وما صدقنا نخلص بما سلم معنا، وساق تلك الأربعة، نحن نراه ما لنا فيه حيلة ولا طمع، وعاد بالغنيمة هو وحده ونحن ثمانية رجال". ويقول في موضع آخر من كتابه: "فوقعنا على ذلك الشرف ننظر الحصن فما راعنا إلا رُويجل قد طلع علينا من ذلك، معه فرس ونشّاب، فرمانا، ولا سبيل لنا إليه فهزمنا والله ما صدقنا نخلص منه، وخيلنا سالمة.... وانصرفنا وفي قلبي من ذلك الرجل الذي هزمنا حسرة...". ويقول: "وشاهدت من الطعنات العظيمة، طعنة طعنها فارس من الإفرنج خذلهم الله فارسا من أجنادنا... قطع له ثلاثة أضلاع من جانبه اليسار، وثلاثة أضلاع من جانبه الأيمن، وضرب شفار الحربة مرفقة، ففصله كما يفصل الجزار المفصل، ومات لساعته". هذا جانب من صورة الآخر _ الإفرنج- كما رسمه أسامة بن منقذ كما نراه جليا في كتابه، دون أن يمنعه التعالي، وتقديس الذات يغمط صورتهم كما بدت عليه في الواقع، فلم يكن هاجسه العلو والسمو على الآخر، وإن كان عدوا.