سلطت وسائل إعلام أميركية الضوء خلال نقاشها الزيارة التاريخية لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، على قدرات الأميرين محمد بن نايف ومحمد بن سلمان، واصفة إياهما ب"القيادة القوية التي تمتلك المفاتيح السرية لركائز العلاقة بين السعودية وأميركا". وبلور السفير الأميركي جيمس بي سميث في مقال له الركائز الثلاث للعلاقة بين البلدين، أكد المسؤولون في الولاياتالمتحدة منذ يناير 2015 وحتى سبتمبر الجاري أن مفاتيح تلك الركائز في حوزة الأميرين الشابين. الولاياتالمتحدة دولة عظمى تحكمها استراتيجيات بعيدة المدى ومؤسسات ديموقراطية وبحثية وبيوت للخبرة تخطط للمستقبل علميا، وتستطيع أن تضبط ساعتك بدقة على جدول أعمالها كل يوم لعقود كاملة قادمة.. كيف اقتنعت هذه المؤسسات في فترة وجيزة بقدرات الأميرين محمد بن نايف ومحمد بن سلمان، لا سيما بعد زيارتين فقط في مايو الماضي وسبتمبر الجاري؟ حكمة تفوق سنه في مقال نشر في "نيويورك ريفيو أوف بوكس" 10 يناير 2013، بلور سفير الولاياتالمتحدة في الرياض جيمس بي سميث "الركائز الثلاث للعلاقة بين الولاياتالمتحدة والسعودية" وهي: أمن النفط، والاستقرار، ومكافحة الإرهاب، وتأكد المسؤولون في الولاياتالمتحدة منذ يناير 2015 وحتى سبتمبر الجاري، أن مفاتيح تلك الركائز الثلاث في حوزة الأميرين محمد بن نايف ومحمد بن سلمان. ولي العهد وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف، يوصف في الولاياتالمتحدة بأنه الجنرال الأقوى في الشرق الأوسط في الحرب على الإرهاب، وذلك قبل أن يشغل منصب وزير الداخلية الذي يعادل منصب وزير الأمن القومي ورئيس "مكتب التحقيقات الفيدرالي" في الولاياتالمتحدة. وفي الواقع، كان ينظر للأمير محمد بن نايف، على أنه قائد استثنائي، إذ تقابل أثناء زيارته واشنطن في أوائل عام 2013 مع الرئيس أوباما في البيت الأبيض، وهي ميزة لا تُمنح عادة لمسؤولين أجانب من نفس درجته الوظيفية وقتئذ. أما ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، فمنذ أن تسلم منصبه وزيرا للدفاع، أثبت في فترة وجيزة أنه يمتلك الخبرة والذكاء والحنكة والحزم، رغم صغر سنه، إذ قال عنه نائب وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن خلال زيارته الأخيرة إلى الرياض: "إنه ذو اطلاع واسع للغاية، ويركز في مسؤولياته، ويتواصل مع الآخرين بسلاسة". ووصفه مصدر ديبلوماسي آخر بأنه "رجل قوي"، أما الضابط السابق في الاستخبارات الأميركية بروس ريديل فقال عنه: "يحظى الأمير محمد بن سلمان بموقع مهم داخل بلاده". تفاعل وإعجاب وشكلت الزيارات الأخيرة لواشنطن فرصة للمسؤولين الأميركيين لتطوير علاقتهم مع الأميرين، لدرجة أن الرئيس أوباما وصف الأمير محمد بن سلمان بقوله: "حكمة محمد بن سلمان تفوق سنه، وهو شخص ذكي جدا وعلى دراية واسعة للغاية"، لذلك كان، خلال زيارة خادم الحرمين الشريفين، محور اهتمام أثناء المحادثات، ليس فقط كديبلوماسي كبير يتمتع بالحكمة، أو كوزير للدفاع في ظل اشتداد الحرب في اليمن، إنما كشخصية استراتيجية تمتلك رؤية استشرافية للعلاقة بين الدولتين في القرن الجديد. علاقات متوازنة لكن يبدو أن هناك أسبابا أخرى تدخل في صميم السياسة الخارجية الأميركية وعلاقتها بالحلفاء التاريخيين في منطقة الشرق الأوسط، في مقدمتها الصعوبات التي واجهت الإدارات المتعاقبة طوال العقود السبعة السابقة التي تتضاءل بالمقارنة بتلك التي خلقتها تحديات اليوم في منطقة الشرق الأوسط، وحسب الديبلوماسي المخضرم، كريستوفر هيل، فإن أميركا لم تدخل القرن الحادي والعشرين وهي معصوبة العينين، في ظل ثغرات كبيرة بين واقع الشرق الأوسط وفهم صناع السياسات في الولاياتالمتحدة لهذا الواقع، لا سيما أن ضمان حماية إمدادات النفط والطاقة العالمية، وممرات الشحن الملاحية الآمنة، أصبحت أكثر تعقيدا. تفكير استراتيجي وحسب مدير برنامج الخليج في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، سايمون هندرسون، فإن ما يشغل الولاياتالمتحدة في أي ترتيبات قادمة هو التأكد من أن قادة المملكة هم شركاء ديبلوماسيون فاعلون على المدى الطويل. كما أن التحول الاستراتيجي الأميركي في الألفية الثالثة، وهو ما أعلنته وزيرة الخارجية السابقة، هيلاري كلينتون التي تعد المرشح الأبرز لانتخابات الرئاسة المقبلة "مثلما كان القرن العشرون هو قرن المحيط الأطلنطي، فإن القرن الحادي والعشرين هو قرن آسيا والمحيط الهادئ بالنسبة للولايات المتحدة، عبر شراكات اقتصادية، سياسية، وأمنية وعسكرية"، وهذا يجعل الولاياتالمتحدة في حاجة إلى حلفاء أقوياء في آسيا خلال المستقبل القريب، في مقدمتهم المملكة العربية السعودية، لضمان الاستقرار الاقتصادي في آسيا، إذ ترتبط بعلاقات مميزة ومتوازنة مع الجميع، دون أي إرث عدواني أو تاريخ استعماري يمنعها من الحركة، وذلك للقيام بدور رئيس في الدمج بين الاتحادات الآسيوية المختلفة، والتعاون والمنفعة المتبادلة مع دول آسيا والمحيط الهادئ، وربما مهدت زيارات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز التاريخية لدول آسيا عام 2014 – وقت أن كان وليا للعهد - لهذا الدور الذي ينتظره الجميع من أكبر دولة عربية وإسلامية في آسيا والعالم. اللحظة الراهنة بالغة الأهمية في تشكيل مستقبل الاقتصاد العالمي، ويبدو أن صعود آسيا وتفوقها الاقتصادي فاق كل التوقعات العالمية. وهنا بالتحديد وجد الأميركان ضالتهم المنشودة في الأميرين اللذين يقفان بجوار الملك سلمان بن عبدالعزيز، وبإمكانهما إضفاء مزيد من الطمأنينة على مستقبل العلاقات الثنائية بين البلدين، لا سيما أن الأمير محمد بن سلمان قدم رؤية استراتيجية جديدة للقرن الحادي والعشرين، والتي طرحها في واشنطن، ولاقت الإعجاب والمصداقية من المسؤولين الأميركيين، فضلا عن أنها حسمت كل ما تردد في وسائل الإعلام العالمية في الفترة الماضية حول سياسة "شد اللحاف" بالنسبة لقضية النفط بين المملكة وعلاقتها بالولاياتالمتحدة، فمن قائل إن هناك ما يشبه الاتفاق الضمني بين البلدين على هذا الانخفاض في الأسعار، بهدف إضعاف المنافسين السياسيين مثل روسيا وإيران، إلى من يزعم أن المملكة بالاتفاق مع دول أوبك تحاصر مع سبق الإصرار عملية التوسع في إنتاج النفط والغاز الصخري في الولاياتالمتحدة، وعرقلة دخولها منافسا جديدا في السوق العالمي. فخ الدب الروسي وتأكد الأميركان من صدق وموضوعية القيادة السعودية التي مثلها الأمير محمد بن سلمان في زيارته الأخيرة لروسيا، وكيف نجح الأمير الشاب في تجاوز ألاعيب الثعلب العجوز بوتين، بعد أن طوى الملك سلمان بمهارة "صفحة الحرب الباردة" وحرب أفغانستان. وقدرة الأمير على أن يبدأ في إقامة علاقات مميزه مع روسيا، مبنية على المصالح المشتركة، لأن أزمنة التحولات الاستراتيجية تحتاج الحكمة لا الحمية، والمرونة لا الجمود، ذلك أن روسيا في توازنات القوى القادمة في المنطقة والعالم ليست دولة كبرى فقط، وإنما هي في العمق، ومن الناحية العملية هي قناة مركزية متجددة وواعدة ومفتوحة على الصين وكوريا الشمالية وإيران والولاياتالمتحدة وأوروبا في الوقت نفسه، فضلا عن خبرتها التاريخية الطويلة بقارات آسيا وأوروبا وأفريقيا. طور الأمير محمد بن سلمان هذا النهج، وسار خطوات إلى الأمام في زيارته التاريخية لروسيا مؤخرا، وصولا إلى آفاق التكامل والاندماج الاقتصادي الذي تحكمه العولمة في القرن الحادي والعشرين. ونجح في تغيير قواعد اللعبة السياسية في المنطقة وفي العالم في أيام قليلة هي عمر الزيارة، دون أن يقع في الفخ الروسي الذي هدف إلى تصوير هذه الزيارة التاريخية وكأنها خلاف بين الرياضوواشنطن، ودون أن يفرط في حصة بلاده في سوق النفط، فقد فوجئ بوتين أنه أمام ثلاثة رجال دولة في شخص واحد: عسكري وديبلوماسي واقتصادي. ولعل هذا ما دفع وكالة فارس الإيرانية إلي تشبيه زيارة الأمير لموسكو بأنها تماثل في أهميتها زيارة وزير الخارجية الأشهر في تاريخ أميركا هنري كيسنجر للصين قبل 44 عاما، وهى الزيارة التي غيرت قواعد العلاقات الدولية وقتها بين الشرق والغرب. اقتصاد العولمة استطاعت السعودية، عبر قيادتها الشابة، أن ترسل رسائل إلى العالم تعبر عن جوهر الدولة السعودية الحديثة، فإذا كان النفط "تحت الأرض" يحرك البر والبحر والجو من خلال الأزمات الاقتصادية، ففي العقود الأربعة الماضية تسببت اضطرابات الشرق الأوسط في الركود الاقتصادي العالمي ثلاث مرات: حرب أكتوبر 1973، الثورة الإيرانية عام 1979، غزو العراق للكويت عام 1990. فضلا عن أن أسعار النفط لعبت دورا جوهريا في الأزمة المالية العالمية صيف عام 2008. لذلك فإن الأزمة الحالية منذ عام 2014 تشير إلى تحول كيفي جديد يتعلق بثورة تكنولوجية في مجال الطاقة، غيرت العالم كله، ولا عودة للنقطة التي كانت قبلها، إذ أصبح الجميع منخرطا في عصر العولمة. تدافع تجاري كما أنه لا يوجد خلاف كبير أو فوارق بين الأنظمة السياسية الأميركية أو الروسية أو الأوروبية، فيما يتعلق بالاقتصاد، رغم وجود الخصوصيات الثقافية، وبالتالي لا بد من إعادة توزيع الأسواق الاستهلاكية. ولعل هذا هو ما دفع المملكة إلى اتخاذ مزيد من الإجراءات التي تسمح بالاستثمارات الأميركية الكبرى، ومع توسع اقتصاد المملكة على مدى العقد الماضي، وفتح سوق الأسهم للمستثمرين عام 2015، فإن كثيرا من البنوك الأميركية، بنك أوف أميركا، ومورجان ستانلي، وكريدي سويس وغيرها، فضلا عن البنوك الأوروبية، بدأت تدفع الخبراء ورجال المال والأعمال وكبار الموظفين بالتوجه إلى الرياض، لتصبح أهم المراكز الاقتصادية بين الشرق والغرب. وستشهد الأشهر القليلة القادمة مزيدا من التطورات الاقتصادية غير المسبوقة التي ستكون بمنزلة اختبار حقيقي للشراكة الاستراتيجية بين المملكة والولاياتالمتحدة في القرن الحادي والعشرين.