إن التحرك الدبلوماسي على جميع الصعد فيما يخص المنظمات الدولية والاجتماعات، ونبرة الخطاب السعودي المختلفة، توحي بأن الرياض، تعيد قراءة المشهد السياسي في المنطقة بما فيه تحالفاتها، التي تدرك أن في تنويعها خدمة لأهدافها الإستراتيجية في وقت تشهد المنطقة مرحلة تحولات سياسية يرجح أن يصحبها تغيرات جيوستراتيجية على المدى البعيد، خصوصاً أن المملكة ترى بأن طريقة تعامل القوى الدولية مع قضايا المنطقة يشوبها «المناورات والمساومات» هناك قول صيني مأثور يقول: «إن التاريخ مرآة تعكس أسباب البزوغ والأفول». يمكننا أن نستلهم من التاريخ فهماً كاملاً للحاضر ونستقي منه حكمة فاتحة للمستقبل. هذا الاقتباس للرئيس الصيني السابق هو جينتاو أمام مجلس الشورى السعودي. ساقت "رياح الشرق" الرياضوبكين إلى علاقات دبلوماسية قبل ربع قرن، كان واضحاً أن المملكة قد تأخرت عقداً من الزمن، بعد سياسة الانفتاح التي قادها الزعيم الصيني "دينغ تسياو بينغ" عام 1978م، فالولاياتالمتحدة التي خاضت حروباً تحت غطاء مكافحة المد الشيوعي، سبقت الجميع ومدت يدها تجاه الصين الشعبية. اليوم يعيد التاريخ نفسه لكن بدون نيكسون ولا كسينجر، أميركا أوباما وجون كيري تهرع إلى "الباسفيك" حيث منطقة المصالح الإستراتيجية المستقبلية على حد قول رئيس هيئة الأركان الأميركي مارتن ديمبسي . يبدو بما لا يدع مجالاً للتخمين أن منطقة الشرق الأوسط برمتها أمام خارطة تحالفات جديدة، فالتقلبات والتغيرات السياسية والاقتصادية التي تشهدها، أعادت صياغة أجندة الولاياتالمتحدة الحاضرة بقوة في منطقة الخليج منذ أربعينيات القرن الماضي، ولم تعد منطقتنا مغرية لواشنطن التي ترى أنها تحرس ناقلات النفط الخليجية لتفرغ حمولتها في موانئ غوانزو وفوجيان وغيرها الصينية. هل حان الوقت لإعادة صياغة التحالفات؟ وصفت أجواء لقاء وزير الخارجية الاميركي جون كيري بالقيادة في المملكة بالصريحة جداً، وتأكيد وزير الخارجية الامير سعود الفيصل بأن العلاقات التاريخية لا تجعلنا نغفل عن نقاط الاختلاف التي لم يحدد مداها الوزير الفيصل، كما أن الإصرار السعودي على مبدأ " الاستقلالية " كان حاضراً خلال لقاء الفيصل - كيري، وجاء التأكيد الأهم من مجلس الوزراء بأن العلاقات مع واشنطن مبنية على الاحترام و"الاستقلالية". إن التحرك الدبلوماسي على جميع الصعد فيما يخص المنظمات الدولية والاجتماعات، ونبرة الخطاب السعودي المختلفة، توحي بأن الرياض، تعيد قراءة المشهد السياسي في المنطقة بما فيه تحالفاتها، التي تدرك أن في تنويعها خدمة لأهدافها الإستراتيجية في وقت تشهد المنطقة مرحلة تحولات سياسية يرجح أن يصحبها تغيرات جيوستراتيجية على المدى البعيد، خصوصاً أن المملكة ترى بأن طريقة تعامل القوى الدولية مع قضايا المنطقة يشوبها "المناورات والمساومات"، وهذا مؤشر خطر. ماذا عن الصين؟ كانت الرحلة الخارجية الأولى للملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى الصين العام 2006، ذات دلالة، فالرمزية السياسية حاضرة بقوة في هذه الخطوة، فهي أبعد من أن تكون زيارة اعتيادية يقوم بها زعيم دولة. فقد أدركت المملكة منذ سنوات أن العلاقات مع الصين الشعبية مهمة وإستراتيجية، وأن الصين ستسهم في تحديد معالم المستقبل وأن القرن الحالي هو قرن آسيا بامتياز. ولا شك بأن الخطوة التي اتخذها الملك فهد – رحمه الله – العام 88 م، بالتوجه إلى الصين الشعبية للتزود بالصواريخ الإستراتيجية، بالرغم من أنه في ذلك الوقت لم تكن هنالك علاقات دبلوماسية بين الجانبين، كانت ذات دلالة على مدى الثقة التي دفعت المملكة لشراء نظام صاروخي متقدم من دولة لا ترتبط معها بأي ميثاق رسمي. لقد أسهم "الربيع العربي" في إيضاح الكثير من الأمور لراسمي السياسة في المملكة، بعد أن كشفت هذه المرحلة التي تعتبر الأهم بعد فترة الحرب العالمية الثانية وأحداث 11 سبتمبر، عن أن الشرق الآسيوي أهم بالنسبة لنا في المدى الاستراتيجي والحالي التحولي، ففيه أصدقاء نحن بحاجة لهم وهم في حاجة لنا . ولعل أهم تلك الدول هي الصين التي تجمعنا معها عدة عوامل تجعلنا ننظر إليها كحليف:- 1- التاريخ الخالي من الامبريالية وخوض الحروب، والالتزام بالمبادئ الخمسة للتعايش السلمي فالاستقلالية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والتعايش السلمي والمساواة وعدم شن أي عدوان تعد ركيزة أساسية للسياسة الصينية. 2- أولوية منطقة الشرق الاوسط بالرغم من البعد الجغرافي، إلا أن المنطقة تحظى باهتمام متزايد من بكين عماده الاقتصاد. إذ تبدو الصين مهتمة بإعادة أمجاد طريق الحرير، لكن هذه المرة ستكون السلعة الأكثر رواجاً هي النفط الذي تصدّر الرياض منه إلى بكين مليون برميل يومياً، كما أن الشرق الاوسط هو البوابة الأكثر ملاءمة لتغلغل مريح للصين في القارة الأفريقية حيث تنشط رؤوس الأموال الصينية التي تشهد انتقاداً لاذعاً من الولاياتالمتحدة . 3- التعاون في مجال الدفاع وهو أحد أهم العوامل التي تجعل الصين خياراً مثالياً لهذا النوع من التعاون، خصوصاً أن الصناعات العسكرية الصينية حظيت بثقة الكثير من الدول المهمة في الشرق الاوسط، ولعل أهم تلك الدول التي وقعت مؤخراً عقداً للحصول على صواريخ دفاعية صينية هي تركيا أهم دول "الناتو"، وهذا يشكل صفعة للولايات المتحدة. لقد برهن التعاون الدفاعي الموثوق مع الصين، أن بالامكان الاعتماد عليها مستقبلاً، وتطوير التعاون العسكري معها والاستفادة من خبراتها التصنيعية الحربية، بعيداً عن مبدأ السرية المفرطة الذي تتخذه واشنطن في هذا المجال. 4 - سياسة خارجية ثابتة ومستقلة، بالرغم من حالة عدم الوفاق التي شابت العلاقات السعودية – الصينية على خلفية المأساة السورية، وتصويتها بالفيتو على قرارين ضد نظام الاسد في مجلس الأمن، إلا أن البلدين تجاوزا هذه المرحلة بسرعة، كون الصين لم تنخرط في الحرب الدائرة في سورية. وعلى مدى تعاقب القيادات الحزبية الشيوعية الصينية أثبتت الصين مدى تمسكها بمبدأ السيادة وعدم التدخل، وإن كان لا يعفيها ذلك من ضرورة الانخراط الايجابي في قضايا المنطقة باعتبارها ثقلاً دولياً مهماً . تأثيرات الانفتاح على الصين لطالما كان التقارب السعودي - الصيني مزعجاً لواشنطن التي ترى أن الشرق الأوسط منطقة نفوذ أميركية، لكن "الاستقلالية" التي تحدث عنها صانع القرار السعودي، هي في الواقع تهيئة لما يمكن أن يصل من أخبار جديدة من الرياض إلى واشنطن. يمكن أن يؤدي الانفتاح غير الكلاسيكي بين المملكة والصين، إلى امتعاض الولاياتالمتحدة، خصوصاً التعاون بين الرياضوبكين في المجال الأمني والدفاعي، إذ تعول الصين كثيراً على خبرات المملكة في مجال مكافحة الإرهاب، وكان وزير الأمن الصيني مينغ جيانجو قد وقع اتفاقية أمنية مع الأمير نايف بن عبدالعزيز – رحمه الله – قبل أكثر من عامين ينص أحد بنودها على التعاون في مكافحة الارهاب . إن التعاون الدفاعي بين الجانبين هو أكثر الموضوعات حساسية بالنسبة لواشنطن، التي تخشى من تأثر حضورها في الصناعات العسكرية في الشرق الأوسط خصوصاً بعد توارد الأنباء عن التعاون "العسكري" بين مصر وروسيا، والاتفاق الأخير بين الصينوتركيا. كما أن واشنطن تخشى من وصول تقنيات عسكرية متقدمة إلى دول الشرق الأوسط بشكل يهدد الأمن في إسرائيل ويخلّ بميزان القوى، كما أن الولاياتالمتحدة تخشى تسرب تصميمات وأفكار ومشاريع عسكرية إلى حلفائها، تقول واشنطن إن "قراصنة" صينيين استولوا عليها في إطار ما يعرف بالحرب الاليكترونية . يمكن أن يؤدي التقارب السعودي – الصيني، إلى " مناورات " و"مساومات" في المنطقة، فالعمل على دفع إيران كمنافس إقليمي للمملكة، ووضعها في صورة الأحداث في المنطقة، ومنحها تأثيراً أكبر في ملفات سورية ولبنان والعراق وأفغانستان يضاف لها قدرات نووية إيرانية متطورة، بدأت تظهر ملامحه هذه الأيام، والمفارقة هنا أن تحرير إيران من العقوبات هو من صالح الصين في نفس الوقت، إذ ترى بكين أن مصلحتها تقتضي تنويع مصادر النفط وإرساء الأمن في مياه الخليج . تنظر المملكة اليوم لخارطة علاقاتها مع الدول العظمى، فترى أن أميركا بدأت تعمل في إطار مصلحتها وإستراتيجيتها بعيداً عن أولويات المنطقة، وإذا أمعنتَ النظر تجد أن أوروبا لم تنفك تدور في الفلك الأميركي الذي سيطر على حلف شمال الأطلسي القوة العسكرية الضاربة، الذي أنشئ لصد شيوعية الاتحاد السوفياتي الذي ورثته روسيا، التي تعيش أزهي فتراتها مع بوتين الذي أعاد للكرملين هيبته. لذا فإن العلاقات مع الصين يبدو أنها أمام تحول تاريخي يوازي في قوته "رياح الشرق" التي بدأت تهب من جديد.