في معرض الرياض الدولي للكتاب وتحديدا في "ركن الراحلين" من المفكرين والأدباء الذي يحتفي بأولئك الذين خلدوا ذكراهم في تاريخ الثقافة السعودية، برز الدكتور راشد المبارك كنخلة أحسائية تطاول الأفق، مؤكدة أنها ما زالت باقية في وجدان وذاكرة الوطن رغم رحليها في فبراير الماضي. ما بين الأحساءمسقط رأسه عام 1935 ومحل نشأته وتكوينه الأولي، والقاهرة التي نال فيها بكالوريوس العلوم من جامعتها عام 1964، ومانشستر التي منحته دبلوم الدراسات العليا في الفيزياء عام 1969، حقبة من الدأب أهلته لنيل الدكتوراه في الكيمياء من جامعة جنوب ويلز عام 1974. ليعود أستاذا في كلية العلوم بجامعة الملك سعود، وفي كل هذا كان الأدب يميز رحلته ويمشي معه كظله، مرسخا اسمه كشاعر ومثقف ينتمي إلى طراز المثقفين التنويريين الذين يمثلون أهم دعامات الوعي في المجتمعات الناهضة. أحدية المبارك الندوة التي كان يستضيفها في بيته كل أحد شكلت على مدى أكثر من ثلاثة عقود عنوانا مضيئا لشخصية العاصمة السعودية الرياض الفكرية والثقافية، إذ النخب التي تخوض بحب ووجدان راسخ في المحبة هموم الوطن وآماله وتطلعاته إلى الاستمرار في الإشراق. هذا الوعي الثقافي الذي ميز شخصية كالمبارك، لم يصرفه عن واجبه المهني، إذ ظل أستاذا للكيمياء في كلية العلوم بجامعة الملك سعود حتى عام 1992. وتنقل في مهمات وظيفية أداها باقتدار، حاز به احترام قيادات المجتمع وتقديرهم له، كأحد المثقفين الحقيقيين الذين يعملون لأجل الوطن والناس، دونما ضجيج أو تكالب على الأضواء، وهذه دائما سمة الرواد الذين ما إن يرحلوا حتى يتأكد معنى الفقد والخسارات. عمل مديرا للمختبرات الكيماوية بوزارة الزراعة، وعضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود، وعميد كلية الدراسات العليا بجامعة الملك سعود، وعضو مجلس الأمناء بمعهد تاريخ العلوم العربية بجامعة فرانكفورت، ورئيس المجلس التنفيذي للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة "الألسكو"، وعضو المجلس الأعلى للإعلام في السعودية، وعضو مجلس الإدارة بدارة الملك عبدالعزيز، فجمع بين العلم والأدب، وعرف محققا، أسهم في إنجاز أكبر الموسوعات العلمية في العالم العربي "الموسوعة العربية العالمية". "ركن الراحلين" يقدم للأجيال اسما فريدا أهدى للمكتبة العلمية، "كيمياء الكم"، و"هذا الكون ماذا نعرف عنه"، وفي الدراسات الإنسانية والنقدية قدم "فلسفة الكراهية" و"التطرف خبز عالمي"، و"شعر نزار بين احتباسين"، غير أن عشقه الأثير تجلى حين أصدر ديوانيه الشعريين "رسالة إلى ولادة" و"قراءة في دفاتر مهجورة". غدا السبت حين يتصدى مركز الجاسر الثقافي لذكرى المبارك من خلال ندوة "الدكتور راشد المبارك -رحمه الله-" التي يشارك فيها كل من الدكتور مرزوق تنباك، والدكتور عبدالله القفاري، والدكتور عبدالمجيد المبارك في دار العرب بحي الورود بالرياض، سيتجدد نعي الأكاديمي والمفكر والشاعر الذي ظل يدعو إلى المحبة طيلة مسيرة حياته، مدونا ذلك في (فلسفة الكراهية) كتاب يستعرض أقوال فلاسفة اليونان وعصر التنوير في الكراهية، مستبطنا دواعي الكراهية، بينما ذهب في مقدمة كتابه (قراءة في دفاتر مهجورة) إلى "أن العقل والوجدان يعيشان لدى كثير من الناس في صيام لا مغرب له، لقد اغتالت (أمجاد) الكرة و(ثقافة) الفيديو ومباذل التلفزيون ومتاهات الإنترنت كل رغبة لدى الفرد أو شعور بالحاجة إلى زاد آخر). وتستعيد الرياض مجددا (شموخ الفلسفة وتهافت الفلاسفة) الكتاب الذي يبرهن على عمقه المعرفي، ويجلي آلية تفكيره التي دفعته لكتابة (التطرف خبز عالمي) ساردا عبر صفحاته تاريخ المسلمين وتسامحهم مع الآخر.