يمتاز المبحث السوسيولوجي بتقاطعاته وتعقيداته وبكونه حقلاً علائقيا على أكثر من مستوى تتداخل معه عدة عوامل تؤثر فيه وتتأثر به، بل ومن خلاله للحد الذي تساءل معه عالم الاجتماع الأميركي هوارد بيكر إلى جانب من نقف؟ إمعاناً بدور وقيمة هذا المبحث، ولن تحتاج للكثير لملاحظة ذلك ابتداء من ابن خلدون إلى أوغست كونت، دوركايم وإلى ماكس فيبر. ولكن رغم كل ذلك لا خطل في أن المرء ابن بيئته، وفي أن المجتمعات المنغلقة على ذاتها تظل رهينة أنساقها وحبيسة بيئاتها الفكرية سليكة الطريق الوحيد وسجينة اللون الواحد، وهذا ما يجعلها تعيش طريحة فكرياً في موت حضاري على هامش العصر وخارج التاريخ والزمكان كونها تقتات على نفسها وتجتر أفكارها، عاداتها وسلوكياتها تعيش أمسها في يومها، ماضيها بحاضرها وتسور فكرها بسياجات ذاكرتها الجمعية التاريخية، ويبقى الفرد فيها على هذه الصورة باستحضار ما تحدث عنه جون ديوي حول تشابه العلاقة الحاصل بين العادات الاجتماعية والوظائف الفسيولوجية، إلى أن يتمكن هذا الفرد من الانفلات والانعتاق من هذه الجاذبية الثقافية والبيئة الحادة، وتسجيل الخروج منها لإعادة الدخول إليها بكلمة مرور قوامها النقد والمراجعة، منطلقاً نحو أوساط متحركة منفتحة تجاه الآخر ينشط فيها الحوار الحر المتجاوز أولا للذات المنغلقة، كون ذلك شرطا أوليا وأساسيا لإقامة أي حوار ديمقراطي يفتح من خلاله الأطراف نوافذ الذهن لالتقاء وتلاقح الأفكار ولتهوية وتجديد ردهات الفكر. فكما أن للجسد حاجياته المعنية ببقائه على أكمل وأمثل شكل أيضا الفكر كذلك، فكل فكرة لا تنتعش بحوار ولا تتغذى بنقاش تختنق وتموت فتتعفن وتلوث فكر حاملها بالدوغما مشكلةً بذلك مع رفيقاتها الأيديولوجيا الصمعميائية. إن الباحث والمتأمل في الوسط الثقافي لطبيعة هذه المجتمعات لا يخفى عليه أن الأمر لا يقاس بمنطق إما أو الضيق ولا ينحصر حال المثقف فيه بين متحرر ومقيد، فهناك من يجمع بين وهمه وواقعه في آن واحد هو من أسميه في حالتنا بالمثقف الخطيب إمعاناً وتأكيداً على الخصوصية الثقافية الخاصة به بوصفه تجلياً للثقافة الخطابية من جهة وتمثيلاً للخطاب الواحد من جهة أخرى، وباعتباره الابن البيولوجي البار بثقافته، حيث يغيب معه الحوار ويختفي الآخر إلا من كونه متلقيا ومستمعا وينتفي التواصل والالتقاء إلا في حالة الاتفاق والتأييد، فالاختلاف معه يعني الضلال وموافقته تفضي إلى سبيل الرشاد، المثقف الخطيب يستبدل الحوار بالخطبة الرأي بالفتوى والمحاورين بالأتباع ويتعاطى مع الآخر من خلال علاقة منبرية متعالية ذات منظور فوقي يقدم فيها خطبه الثقافية العصماء قاطعا بذلك الطريق على كل فرص التحاور والاستماع، فهو لا يستمع إلا لمن يرفع من مستوى صدى صوته المرتد من المنبر، المثقف الخطيب مصاب بطبعه بالعمى الثقافي ويعاني من انفصام سلوكي حاد بين ما يقول، وما يفعل فتجده يأتي لنفسه بما ينكره على الغير. إن أفعال الرجال هي ما توضح حقيقة أفكارهم كما يقول فولتير في إشارة لثنائية التنظير والتطبيق بوصفها كاشفة لهوية مثقفنا الشيء الذي أبرزه لنا بوضوح وعن كثب الإعلام الجديد عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي من خلالها سبرنا أغوار شخصيته قد يبدو الأمر لوهلة هيناً ومطمئنا عند الحديث عن الأدلجة بوصفنا غير معنيين بها وبحسبنا خارج دائرتها الدوغمائية، بينما نحن نقبع في محيطها ونعيد تدويرها وهنا تكمن خطورتها وسر قوتها.