تكررت الأحداث التي صاحبت العديد من المناشط الثقافية، في عدد من مناطق بلادنا، سواء على مستوى الأنشطة الثقافية المؤسساتية، أو الأنشطة الجامعية، أو الأخرى الترفيهية، مما أدى إلى إيقاف بعض الأنشطة، ومحاولة الحيلولة دون قيام أنشطة أخرى.. و(ثقافة اليوم) تستطلع عددا من آراء المثقفات والمثقفين حول هذه الأحداث. الدكتور مسفر بن علي القحطاني رئيس قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، يرى بأن هناك أسبابا عديدة خلقت هذا الجو المتوتر من الاختلاف وفضاء خانق لا يتفق مع طبيعة الحوار بين الأطياف السعودية التي تنطلق في الغالب من مشكاة واحدة من الثوابت الدينية والمسؤولية الوطنية، منبها إلى غياب مفاهيم الحوار البنّاء ووجود أحكام مسبقة عن الآخر، ومحاولة إثبات الخطأ قدر المستطاع واعتبار الحوار الفكري نوعا من النزال المقدس بين الحق والباطل، كل ذلك وغيره أسهم في تشكيل حالة من التباين بين أطياف المجتمع. د. مسفر القحطاني يقول مسفر: مما أخشاه أن كثيرا من تلك الأجواء المتوترة بالصراعات والتراشقات المتبادلة بين تلك التيارات لا تحسب على أنها صورة قاتمة للمشهد السعودي في نظر أصحابها، بل أحيانا تكون مسوغا دائما للبروز الثقافي الذي لا يمكن أن يحظى بالإثارة الإعلامية والتفاعل الإلكتروني عبر الانترنت إلا من خلال هذا النوع بين الخصوم المتطرفين في الأفكار، والذين يغذون نزعات التفرد والتخندق على الذات وتحويل الخلاف السائغ إلى افتراق عن الملة والوطن، والليبراليين والإسلاميين شركاء في تثوير النزاع لأن له تغذية راجعة في وجود الأنصار والمصفقين المتفرجين على ساحات المعركة. من جانب آخر رأى القحطاني بأن الجدل الفكري الذي حدث في المشهد السعودي خلال العقدين الماضيين كان أكثره خصومات شخصية تسعى للنيل من الرموز أكثر من التعامل مع الخلاف الفكري بموضوعية تتمحور حول الآراء والأفكار مجردة عن لوازمها المشخّصة، مشيرا إلى أن هناك مساحات واسعة للجدل الفكري قد تؤدي إلى حراك إيجابي نحو قضايا النهضة وفقه التقدم ومعالجة صور الانحطاط في التنمية. ومضى د. مسفر واصفا العلاقة بين الأطياف الفكريّة في المملكة بأنها مازالت تمرّ بمرحلة التخندق على الذات، والبحث عن إيجاد فرص العداوات أكثر من جسور التوافق على الأمور المشتركة، بالإضافة إلى وجود إطار مصلحي ونفسي هو الذي يحدد طبيعة فكر الانتماء وليس العكس، فمن وجهة نظري أن الانتماء الفكريّ والثقافيّ يؤدلج الإنسان نحو علاقته بكل ما حوله، فهو يأتي أولاً، وليس كغطاءٍ ختامي يحجب التوترات النفسيّة، أو المصالح الاجتماعيّة، أو الأفكار المسبقة التي يُراد لها العودة والبروز من جديد. لذلك نرى قليلاً من المثقفين العرب وحتى المحليين مَن تتغير أُطرُه الفكريّة والثقافيّة نتيجة لحجم التطورات العالميّة والتغيرات الفكريّة التي تعصف بالعالم أجمع، وقد أوجدت هذه التغيّرات في أوروبا -على سبيل المثال- حالة عُصاب فكري وفلسفي يطالب بالمراجعة الشاملة لكل الأطروحات وفلسفات النهضة السابقة، يحمل لواءها جموع مَنْ يُسمّون بمفكري ما بعد الحداثة؛ بينما لا يزال الطرح العلماني والقومي وحتى الاشتراكي والإسلامي في مجتمعاتنا المحلية يراوح في مكانه، ويتخندق في بنيَويِّته دون رغبةٍ في التجديد أو مواكبةٍ للتغيير. وهذه الأزمة تدلّ في صورٍ منها على انكفاءٍ ذاتي مهما كان حجم الانفتاح، وتقاطعات فكريّة يستحيل أن توجد في المجتمع نوعاً من الانتماء والتعدديّة الإيجابيّة، ولذلك هي كامنة تحت السطح الاجتماعي، ولكنه كمون البارود القابل للاشتعال عند وجود الفتائل المحرّضة للانفجار. وختم د. مسفر حديثه مؤكدا على إحياء القواسم المشتركة وتفعيل البرامج العليا للمجتمع أولى مِن بيان مَن أخطأ أو محاكمة مَن تجاوز، وخصوصاً أن مرحلة النضج بالتنوُّع الفكري مازالت في طور التكوّن لدى جميع نخبنا ومؤسساتنا الثقافيّة. زينب غاصب أما الشاعرة والكاتبة زينب غاصب فترى بأنه لا يوجد لهذه الظاهرة من تفسير سوى الغلو والتطرف، وفهم الدين والحياة من منطلق خاطئ منغلق يرى في كل نشاط ثقافي، أو فني، أو علمي، خروجا عن المألوف الذي يمزجونه بالدين اعتباطا ليبرروا لأنفسهم الفعل المتسلط لحماية الفكر الأوحد الذي أخذوه عن جماعات لها أهدافها الخاصة في عزلة المجتمع وإبقائه بعيدا تحت طائلة عاداتهم وتقاليدهم. ومضت زينب قائلة: الدين يشجع الانفتاح والثقافة، لأنهما مصادر الحضارة الإنسانية ويعطي المجتمع الحرية المطلقة في صنع ثقافته المتنوعة بالطريقة التي يريدها، وعرضها أيضا بالوسيلة التي يراها تناسب اتجاهاته وأهدافه وتطلعاته ليلحق بالركب الحضاري العالمي خاصة ونحن في عصر العولمة وما لا يعجب البعض سيدخل من أبواب أخرى ربما تكون عواقبها خطيرة على المجتمع. ونبهت غاصب إلى أن البعض من هذا الجيل الذي تشبع بمناهج التطرف والانغلاق، يرى في هذا جهادا وتقربا إلى الله مع العلم أنهم لا يقدسون إلا طريقة مشايخهم الذين يرون فيهم سلوكا فوق الخلق وفوق القانون. فالمرأة حاضرة في المجتمع الإسلامي بنشاطها وإبداعها منذ العصور الأولى المبكرة والأنشطة الثقافية والفنية والأدبية كانت موجودة في قصور الخلفاء الذين يرعونها بأنفسهم لكن العقول المتآكلة عمدا لا تنفع معها إلا سلطة القانون. الذي يقع على الجميع بعقوبته ضد العابثين والمتسلطين على حقوق المجتمع في ثقافته وأنشطته. من جانب آخر أشارت غاصب إلى أهمية وجود العقاب الذي يطمس هذه الظاهرة، وأكدت على أهمية وجود قانون واضح وصارم، ضد هؤلاء حتى لا يزيد تسلطهم وتنمو أشواكهم. وتزيد سطوتهم، فمن يحرق أو يعبث بالمنشآت، أو يكفر، أو يشتم، أو يتطاول على الأشخاص بالدعاء عليهم أو اتهامهم في دينهم. مشيرة إلى أن الوعي الاجتماعي ليس بحاجة لمن يكون وصيا عليه في اتجاهاتهم أو أفكارهم. د.علي الرباعي أما الشاعر والناقد الدكتور علي بن محمد الرباعي، فقد وصف ما حدث بأن له أسبابا ودوافع، وذلك من خلال ما يمكن للمتابع لمشهدنا الثقافي أن يلحظه من تصدي جهات عدة للمشاريع والأفكار والبرامج الثقافية، ومحاولة التضييق على متبنيها ومنتجيها وإثارة صخب يصل حد التجني. وقد اعتبر الرباعي مرد ما يحدث إلى تداخل الاختصاصات وجهالة مسؤولية بعض المؤسسات حدود صلاحياتها، ومن عجب أننا لم نشهد يوماً ما وقوف مثقف أو أديب في وجه أي نشاط دعوي، أو وعظي أو منبري لأي تيار يتبنى أطروحات متشنجة، وحسب المثقفين ما يعبرون عنه من رأي من خلال المباح والمتاح من وسائل التعبير.. وهنا سيقول البعض لن يجرؤ مثقف على الوقوف في وجه داعية أو واعظ، وأقول ربما إلا أن ما يمنع المثقف من التطاول هو تكوينه، وبناؤه الروحي والفكري، وإيمانه بالتعدد، وقبول الرأي الآخر، والاستعداد للحوار بينما هناك من يتطاول بصلافة، ويهاجم بضراوة كونه مسنودا من شخصيات اعتباطية، أو جهات اعتبارية. ومضى د. علي قائلا: أرى أن دور المؤسسة الثقافية لا يزال يراوح في دائرة محدودة، دون توسيع أو تنويع، فلا تنوير ولا تبني وجهات نظر مغايرة، ولا فتح أبواب الحوار حول القضايا الفكرية، ولعلي لمست أن مناطق المتشددين تتبادل الأدوار وتتناوب المهام، فما إن تخف حدة التوتر في المراكز حتى تلتهب بؤر الإقصاء في الأطراف، والفكر المتشدد ليس له رؤية يمكن التحاور حولها بل وجهة نظر أحادية يرى أصحابها والمروجون لها أنها الحق كما نزل من السماء، وأزعم أن التطاول على مثقف لا يقل خطورة عن الاعتداء على رجل أمن، أو مسؤول في دولة. من جانب آخر أكد الرباعي على أهمية وجود العقوبة التي تردع مثل هذه التصرفات، التي وصفها بالغوغائية، التي كان من الواجب أن يحل بدلا منها الحوار الذي ينطلق من مبدأ التنوع والتعددية؛ مناشدا المثقفين بمطالبة وزارة الثقافة بالتنسيق مع مجلس الشورى تقنين عقوبات رادعة لكل من تسول له نفسه المساس بأمن النخبة المثقفة أو الاعتداء على مؤسسة ثقافية لأنها منابر فكر وكتابة ومقال وليست ساحات قتال أو أرضية حرب أو ميدان تعلم الإجرام.واختتم د. علي حديثه بقوله: أحمّل بعض الأئمة والخطباء والوعاظ مسؤولية التوتر الحاصل في ساحتنا الثقافية، فهناك من يتولى تهييج الناس وتحريضهم على الرموز وتهيئة النفوس لكرههم والحقد عليهم وزرع الضغائن والإقصاء والتكفير والتفسيق في أرواح وأذهان رواد ومرتادي المساجد وهذا مخالف لكل القيم الإسلامية والعالمية والإنسانية، فالفكر يجابه بالفكر، والكلمة يرد عليها بكلمة، والجنة والنار بيد رب العالمين، ولن يكون المتدين أحرص على المثقف من نفسه.