لم تكد تمضي أيامٌ قلائل على اندلاع الأزمة في "أوكرانيا"، وتدخّل "روسيا" في الأزمة، وضمها لشبه جزيرة القرم، حتى هاجت الدول الغربية وماجت، وأقامت الدنيا ولم تقعدها، وسارعت إلى فرض العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية على "روسيا"، مهددةً بالمزيد، إن لم تتراجع "موسكو" عن مخططاتها، وتتنازل عن أطماعها في أوكرانيا، حتى اضطرت الأخيرة إلى لتراجع، وتوقفت عن المضي في مخططاتها رغم القيمة العسكرية والموقع الجغرافي الذي تمثله "أوكرانيا" بالنسبة "لروسيا"، على اعتبارها تمتلك العديد من الأسلحة النووية، التي ورثتها عن فترة الاتحاد السوفيتي السابق. في المقابل، أبدت الدول الأوروبية والولاياتالمتحدة على وجه الخصوص، إهمالاً متزايداً للأزمة السورية، ولم تكترث لحمامات الدم التي تشهدها دمشق للعام الرابع على التوالي، والتي وصلت مرحلة مقتل 200 ألف شخص، وإصابة قرابة المليون بجروح، وتشريد نصف الشعب، وتدمير بنية البلاد التحتية نتيجةً لتعنت نظام الغدر والظلم، وإصرار بشار الأسد وزمرة معاونيه على الاستمرار في حكم سورية، رغماً عن إرادة شعبها، والاستمرار ولو على جماجم جميع أبناء الشعب، تدعمه في ذلك "روسيا" نتيجة لمصالح اقتصادية بحتة، ورغبةً في عودة نفوذها إلى منطقة الشرق الأوسط، هذا بالإضافة إلى مدّه من قبل إيران بالمال والسلاح والمقاتلين، لتنفيذ مخطط مذهبي طائفي؛ ولأجل تنفيذ ذلك، وضعت طهران كافة إمكاناتها، العسكرية والاقتصادية، وحولت خبراءها العسكريين الذين باتوا يديرون العمليات العسكرية على الأرض إلى مستشارين لدى نظام السفاح، واستجلبت عشرات الآلاف من المقاتلين الطائفيين من حزب الله اللبناني، وكتائب أبي الفضل العباس، وفيلق بدر العراقيين، إلى جانب مليشيات بدر الدين الحوثي اليمنية، ومقاتلين شيعة من "باكستان". صمت مطبق على الرغم من كل ذلك، لم تتحرك الدول الغربية لوقف هذا التدخل الغاشم، ولم تحرك المآسي التي ابتُلي بها السوريون شعرةً في رأس أيّ من مسؤولي المجتمع الدولي، إلا بالتصريحات والشجب والإدانة بلهجات التهديد التي تطلق بصورة خجولة في بعض الأحيان. وبينما يرى البعض أن سبب التخاذل الدولي وتقاعس الدول الغربية عن نصرة الشعب السوري يعود في المقام الأول لحسابات خاطئة، مفادها أن كثيراً من المتطرفين والإرهابيين وعناصر تنظيم القاعدة يقاتلون في صفوف المعارضة المسلحة، وبالتالي تخشى هذه الدول من مغبة ما يترتب على استلام هذه الجماعات زمام الأمور في سورية بعد الإطاحة بالأسد، فإن آخرين يؤكدون أن الرغبة الأميركية في تفكيك السلاح النووي الإيراني هي السبب في إحجامها عن معاقبة نظام الأسد والإطاحة به. "المصالح" على حساب الإنسانية عن تلك الازدواجية والاختلاف في التعامل، يرى رئيس اللجنة القانونية في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية هيثم المالح، أن لغة المصالح والمنافع الاقتصادية هي التي باتت تسود اليوم في عالم السياسة الغربية، وأدت إلى تراجع التمسك بالمبادئ. المالح الذي سجنه نظام الأسد لسنوات، يقول: "العالم بات تحكمه المصالح الاقتصادية، ولم يعد فيه حرصٌ على المبادئ والأخلاق، وكل ما يُقال في هذا الشأن لا يعدو أن يكون شعاراتٍ براقة، فالغرب اهتم بالقضية الأوكرانية؛ لأن "أوكرانيا" تنتمي له وهي جزء من أوروبا؛ لذلك أعطت قضيتها أولوية، في حين أنها غضّت الطرف ولا تزال تفعل ذلك، في ما يتعلق بقضية سورية؛ لأنها لا تعتبرها أولوية مماثلة، رغم تشدّق المسؤولين الغربيين بالأخلاق والحرص على مراعاة حقوق الإنسان. لكن مأساة سورية كشفت زيف كل تلك الادعاءات ووضعت المجتمع الدولي أمام مرآة كبيرة يرى فيها نفسه ويتعرف على تناقضاته"، ويسهب في الحديث "أي اعتداء على حقوق الإنسان أكثر من أن يقوم الأسد بقتل الآلاف بالسلاح الكيماوي الذي تحرّمه كافة القوانين الدولية والشرائع السماوية وتدينه منظمات حقوق الإنسان؟ الأسد فعل ذلك بدمٍ باردٍ وقتل آلاف الأطفال في غوطة دمشق في أغسطس من العام الماضي، فماذا فعل العالم لمعاقبته؟ وماذا كانت ردة فعل المجتمع الدولي؟ لم يحدث شيء، رغم تهديدات الولاياتالمتحدة بشن ضربة عسكرية على دمشق، إلا أن كل ذلك ذهب أدراج الرياح، وتم "عقد صفقة" معه لتسليم ترسانته الكيماوية، وبمجرد أن وافق على ذلك غضّت "واشنطن" الطرف عن جرائمه، أي أن "تسليم الأسلحة" أعفى النظام المجرم من جريمة قتل الأطفال والنساء والمدنيين الأبرياء". "الطائفية" والحقوق ويتابع المالح بالقول: "للأسف الشديد، إن الحسابات الطائفية باتت في نظر البعض أهم من حقوق الإنسان ومقدمة عليها، فإيران التي لا تتوانى عن التصريح بوقوفها إلى جانب نظام الأسد بالمال والسلاح والمقاتلين والخبراء، لم يدفعها لذلك سوى الرغبة في السيطرة على المنطقة العربية من خلال المخططات الطائفية، هي تعتبر سورية معبراً لنفوذها الطائفي في لبنان حيث شريكها وحليفها الاستراتيجي حزب الله. والأخير دفع بعشرات الآلاف من اللبنانيين لأتون الحرب والقتال إلى جانب بشار الأسد، إعلاءً لحسابات مذهبية بحتة، وحكومة نوري المالكي تغضّ الطرف عن تسلل مقاتلي أبي الفضل العباس وفيلق بدر لذات السبب، وتنكر سماحها للطائرات الإيرانية بنقل الأسلحة إلى سورية، حتى روسيا دخلت على خط الطائفية وهي الدولة غير الإسلامية، حيث صرح وزير خارجيتها "سيرجي لافروف"، بأن بلاده لن تسمح للمسلمين السُنّة بحكم سورية؛ لأنه يتصور أن في ذلك خطراً على مصالح بلاده". "النفاق".. الأعلى صوتاً أمين عام الائتلاف بدر جاموس، يجد أن "سياسة النفاق" باتت هي الأعلى صوتاً، مسنوداً بتجاهل المجتمع الدولي لجرائم النظام، التي أغرته لارتكاب المزيد منها. يقول جاموس: "لم يكتفِ نظام بشار المجرم بما اقترفته يداه في ريف دمشق، فها هو يبتكر في كل يوم وسيلة جديدة لإبادة الشعب السوري، ورغم فظاعة جريمة استخدام الكيماوي وتعارضها مع كل القوانين الدولية، إلا أن "البراميل المتفجرة" التي يقذف العشرات منها يومياً على رؤوس المدنيين والأهالي تفوق الكيماوي في وحشيتها وفظاعتها وإجرامها، فإذا كان ضحايا جريمة "الغوطتين" بلغ بضعة آلاف، فإن ضحايا البراميل المتفجرة وصل عشرات الآلاف، والعدد مرشح للارتفاع في ظل إصرار النظام على استخدامها، تحت سمع المجتمع الدولي وبصره. لم تحرك الأممالمتحدة ساكناً لوقف تلك الآلة الجهنمية، ولم يصدر عن مسؤوليها سوى بضع كلمات إدانة وشجب خجولة، وكأنهم يعطونه بذلك تصريحاً بمواصلتها لإبادة المدنيين العزل". وتابع "ربما كانت روسيا تعتقد أن مجرد الحفاظ على أنبوب الغاز الذي يمر عبر الأراضي السورية "أغلى لديها" وأكثر أهميةً من أرواح مئات الآلاف من السوريين، ولعلها ترى أن بقاء بشار الأسد على سدة الحكم يؤمّن لها فرصة استعادة نفوذها في المنطقة، لكن كل هذه حسابات خاطئة، فالشعب سينتصر في النهاية على جلّاديه، وسطور التاريخ تؤكد أن الغلبة في الآخر للشعوب على حساب الطغاة، والصبح سيشرق لو طال الليل". طهران ومخلب القط جاموس يضيف "على نظام الملالي في طهران أن يتأكد أن كل ما يبذله من دعمٍ للنظام المجرم لن يجديه فتيلاً، وأن الشعب السوري بات يعتبر إيران عدوها الأول؛ فهي التي مكّنت النظام من الاستمرار حتى اللحظة، وبلغت الجرأة بالإيرانيين أن يعلنوا على الملأ أنه لولا دعمهم لسقط النظام في الأشهر الأولى من الثورة، وكذلك على زعيم حزب الله الطائفي حسن نصر الله –الذي ارتضى أن يكون مجرد "مخلب قط" يستخدمه النظام الإيراني لتنفيذ أجندته المشبوهة على حساب السوريين- أن يعلم علم اليقين أن القصاص قادمٌ، وأنه سيدفع ثمن تدخله غالياً"، واستمر جاموس بالحديث "المجتمع الدولي بات أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن يقوم بما عليه ويستنهض همته لإدراك ما فاته وتصحيح أخطائه، وكفّ أذى النظام السوري عن شعبه، أو مواصلة نهج الصمت والسكوت الذي يتبعه حالياً، وبذلك يمنح كل مجرمٍ الحق في إبادة شعبه، ويصبح العالم غابة لا حكم فيها إلا للأقوى". "محرقة للمتطرفين" وعلى ذات النسق يسير رئيس المجلس الوطني السوري السابق عبد الباسط سيدا، الذي يؤكد أن المجتمع الدولي سيظل مكتوف الأيدي في ما يتعلق بالأزمة السورية، ولن يحرك ساكناً لاعتبارات استراتيجية، ويقول: "ربما كانت الدول الغربية لا تزال تعاني من تكلفة حربي العراق وأفغانستان، لذلك تخشى أن يرتب تدخلها في سورية مصاعب اقتصادية جديدة، ويرى البعض أن الدول الغربية تريد أن تكون سورية محرقةً للمتطرفين من مقاتلي القاعدة في قتالهم مع مقاتلي الميليشيات الشيعية في سورية، لكن هذه النظرة –إن صحت– فهي تشير إلى خللٍ في التفكير، وضيقٍ في الأفق، فالأمر ليس على ما يتصوره هؤلاء، والثورة السورية هي ثورة شعبية في المقام الأول، تفجّرت بواسطة الشعب الأعزل، ولا يزال الجيش السوري الحر يمثل القوة العسكرية الضاربة فيها، وهو بشهادة معظم الخبراء الغربيين عبارة عن مجموعات من الشباب السوري المعتدل، الذي لا تربطه بالقاعدة ومقاتليها أيّ صلةٍ، بل على العكس من ذلك، لم يجد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام المعروف اختصاراً باسم "داعش" سوى الجيش الحر ليتخذه عدواً، لذلك يركز على محاربته أكثر مما يركز على مقاومة القوات الحكومية". ويمضي سيدا ليقول: "هناك تململ واسع وسط الكثير من المسؤولين الغربيين الذين يرون أن في استمرار الأزمة السورية على النسق السائد الآن تهديداً كبيراً للمصالح الدولية، وقد يؤدي إلى إيجاد جيلٍ جديدٍ من المتطرفين الذين تصعب مواجهتهم مستقبلاً. كما أن الأزمة السورية تسببت في وجود تهديدٍ داخل الدول الغربية نفسها، حيث اجتذبت المحرقة الدائرة الآلاف من الغربيين الذين دخلوا إلى سورية وانضموا لصفوف "داعش" وجبهة النصرة، وذلك لقصورٍ في فهم صحيح الإسلام. هؤلاء باتوا يشكلون بذرة تطرف قد تنمو وتزداد، مما يهدد "بتفريخ إرهابيين" من مواطني الدول الغربية والأوروبية؛ لذلك يطالب هؤلاء المسؤولين بسرعة التدخل، ووضع حدٍ لتمادي النظام واعتداءاته على الشعب السوري الأعزل". حمام الدم أمّا منسق الثورة السورية في مصر نزار الخراط، فيشير إلى أن الولاياتالمتحدة لها مصلحة رئيسة وأولوية في تفكيك البرنامج النووي الإيراني، ولأجل ذلك تغضّ الطرف عمّا يرتكبه نظام الأسد من مجازر بحق الشعب الأعزل. يقول الرجل: "للأسف فإن الدول الغربية تقدم مصالحها الشخصية على كل المبادئ والأخلاق، وبمجرد أن حدث التقارب الأميركي الإيراني أبطأت واشنطن من تصميمها على اقتلاع النظام السوري، رغبةً في حثّ إيران على تنفيذ الاتفاق الذي وقعته مع الدول الغربية، وواجهت إدارة الرئيس "باراك أوباما" بسبب ذلك الكثير من الضغوط والانتقادات، التي وجهها لها أعضاء نافذون في الكونجرس، كما واجهت انتقادات داخل الإدارة نفسها ترى أن واجب الولاياتالمتحدة ومسؤوليتها كقوةٍ عظمى تحتم عليها التدخل ومساعدة الثوار السوريين الذين يتصدّون للنظام الحاكم". ويثني الخراط على الدعم الكبير الذي تقدمه المملكة للثورة واللاجئين السوريين الذين تفرقوا في دول الجوار، قائلاً: "كان للمملكة العربية السعودية وحكومتها الرشيدة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدور الأكبر، في دعم السوريين، السعودية رفضت تمرير المخططات الغربية والمؤامرات الدولية، ووقفت وقفةً حازمةً في كل المنابر الدولية وطالبت بالصوت العالي بوقفةٍ حازمةٍ ضد نظام البطش والطغيان، واستغلّت كافة خبراتها، وسخرت علاقاتها الدولية واستثمرت المكانة السياسية الرفيعة التي تحظى بها، والقبول الكبير الذي تجده بسبب وضعها الاقتصادي الراسخ وسياساتها المتزنة، لنصرة الشعب السوري الجريح". موقف الرياض التاريخي ومضى الخراط قائلاً: "كان الموقف السعودي الذي اتخذته عندما رفضت قبول عضوية مجلس الأمن –التي يسيل لعاب كافة الدول له– تاريخي. التراخي الدولي عن نصرة القضية السورية وازدواجية معايير الأممالمتحدة هو منطلق الرفض السعودي ذاك، هذا الموقف أصاب المجتمع الدولي ب"لطمة كبيرة"، وكان بمثابة لفت انتباه للمأساة السورية، ودفع كثيراً من دول العالم للتضامن مع موقف المملكة، حيث طالبت بريطانيا وفرنسا وألمانيا والعديد من دول العالم بتدخل الأممالمتحدة بصورة جدية في القضية السورية". وأضاف الخراط "لم يقتصر دور المملكة العربية السعودية على الجانب السياسي فقط، بل اهتمت بمواساة ملايين اللاجئين الذين تشتتوا ما بين الأردن وتركيا ولبنان، فسيرت قوافل الإغاثة لهم، وأنشأت لهم المخيمات المناسبة، وأمدتهم بالغذاء والدواء والكساء. ولم تنسَ الأيادي السعودية الحانية أن توفر حتى حليب الأطفال، كما استنفر قادة المملكة بقية الدول العربية الذين استجابوا لدعوتها، فتواصل الدعم للاجئين الذين اضطروا لترك ممتلكاتهم ومنازلهم هرباً بأرواحهم وأبنائهم".