أحسب أن العالم كله قد حبس أنفاس المفاجأة، وهو يستمع إلى هدير قرار الرياض باعتذار المملكة عن عدم قبول عضوية مجلس الأمن، بعد ما حصلت على زخم من أصوات دول الأممالمتحدة. فالقرار الذي أزعج الخمسة الكبار، قد أثار كل الغضب المكتوم في أرجاء العالم -الثاني والثالث خاصة- ضد هيمنة خمس دول تملك - وحدها- حق (الڨيتو)، أي الاعتراض على أي قرار لا يتماشى مع مصالحها (الخاصة) وخطها السياسي، وليذهب الضعفاء إلى وادي البكاء. فهناك شعب يُطرد من أرضه - فلسطين- ويعيش من بقي منه متمسكاً بالأرض والوطن، على مضض القهر والظلم والمهانة، من عصابات الصهيونية شُذاذ الآفاق، وشعب آخر يذيقه الحاكم المستبد -في سورية- صنوف القهر والقتل حتى بالأسلحة المحظورة، بينما خمسة الڨيتو يتعاركون ثم يتوافقون على تقسيم كعكة المصالح فوق مئات الآلاف من الجثث. ولا يستحي هؤلاء من أن يعلنوا عدم موافقتهم على طلب الجامعة العربية إخلاء الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل، حرصا على ربيبتهم المدللة إسرائيل، لكي تبقى الوحيدة التي تستطيع امتلاك هذه الأسلحة بل وتستخدمها إذا شاءت، بينما غيرها يلاحق ويحاصر وتدمر بلده -العراق مثالاً- لمجرد شبهة امتلاكه شيئا من السلاح النووي، ثم يظهر أن ذلك كذبة لفقتها المخابرات الأميركية، ولا شيء لدى العراق من هذه الأسلحة، وما أبشع ازدواجية المعايير. وجاءت السعودية تعلق الجرس، ليفيق الغافلون عن حقوقهم المسكوت عنها، ويفيق المجلس وأعضاؤه الخمسة من وهم بقاء الحال على ما هو عليه، من هذا الوضع الذي ربما كان مقبولاً في زمن انتهاء الحرب العالمية الثانية، وسيادة الدول الخمس المنتصرة على بقية الأرض المهزومة، لكن الوضع تغير الآن وظهرت دول وتكتلات فرضت نفسها على الساحة، وبلادنا واحدة من أهم تلك القوى الجديدة. ولا يحسبن أحد أن هذا النقد السعودي لهذا النظام العالمي هو الأول من نوعه، فالمملكة رقم صعب عالمياً منذ تأسيسها على يد الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه- الذي رفض مساومة الرئيس الأميركي "روزفلت"، على قيام دولة لليهود على أرض فلسطين، وقال له الملك عبدالعزيز إن الألمان -الذين أحرقوا اليهود- هم الأولى بهم وباستضافتهم، فإن تعذر عليكم إقناع الألمان، فأسكنوهم في ولاياتكم الشاسعة، وفاء لتعاطفكم وعلاقتكم الوثيقة بهم، وما كان أمام روزفلت إلا الاقتناع بهذه الحجة الدامغة، ووعد بتغيير الدفة عن توطين اليهود في أرض العرب فلسطين، لكن لم يمهله الزمن للتنفيذ. ثم إن الملك الشهيد فيصل بن عبدالعزيز -يرحمه الله- الذي حضر تأسيس الأممالمتحدة في يونيو 1945 في سان فرانسيسكو -ممثلاً للمملكة- قد حدد مهمة هذه المنظمة في كلمته التي أعرب فيها عن "الثقة بأن هذه المنظمة ستسعى إلى خير العالم"، وأنه -كما نشرت جريدة أم القرى في 19/11/1962- في كلمته أثناء تنصيب السيد "ظفرالله خان" رئيساً للجمعية العمومية للمنظمة، قد حدد - مجدداً- وفيما يشبه التحذير عندما قال "ولأن تكون الأممالمتحدة جديرة بالبقاء وبمبادئ ميثاقها، فعليها أن تضمن العدالة والسيادة القومية للجميع، وأن تجتهد في منع خرق مبادئ القانون الدولي، وجميع المبادئ التي أعلنت عنها الأممالمتحدة". وقد حدثني من أثق في صدقيته أن الملك فيصل، قد ضاق ذرعاً بعد ذلك بانحرافات مجلس الأمن، فقال ما معناه: "إن المجلس هو المشكلة فكيف يكون هو الحل؟! ومن جَّرب المجرَّب حلت به الندامة! ثم كانت الوقفة الفيصلية الشامخة في وجه الموالاة لإسرائيل ضد العرب في حرب 1973، حيث قطع البترول عن الخمسة الكبار.. ولا يزال العالم مشدوها لهذا الموقف الجريء وغير المسبوق، وهناك مواقف سعودية كثيرة يصعب حصرها في هذا الصدد. وها هو اليوم خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -يحفظه الله- يواصل مشوار السلف، فيقف مع مصر بأقصى الدعم السياسي والمعنوي والمادي بلا حدود، ضد الإرادة الأميركية ومشروعها لتقسيم المنطقة، وفي اللحظة التي يحتفل فيها العالم الإسلامي بموسم الحج المثالي الذي نظمته المملكة، تطلق الرياض النفير إلى الأمم الصامتة عن حقها كي تتكلم، وإلى مجلس الأمن للعودة إلى جادة الصواب، وحتمية إعادة ترتيب المنظمة ومجلسها بما يحقق العدل والحرية والمساواة والأمن والأمان بلا تفرقة ولا تمييز، وهي المهمة التي من أجلها أسست المنظمة ومجلسها، وقد آن الأوان لتحقيق المساواة في الرأي والصوت بين كل أعضاء المجلس ال15 دون تمييز. وهاكم رسالتان: الأولى لمن قال إن اعتذار المملكة متسرع، ومن قال إن الأولى بها أن تضع مشروع الإصلاح ثم تقدمه للمجلس، فإذا رفض المشروع حق لها أن تعتذر، بل بلغ الحد ببعضهم إلى النصح بأن تسحب السعودية اعتذارها، وتسير مع مصالحها وما عليها!، ولهؤلاء وهؤلاء أقول إن الأعضاء الموقتين هم - بحكم النظام القائم- مجموعة أصفار وإن الاعتذار المدوي، ثم استقطاب الرأي العام العالمي حوله هو القرار الأصوب في اللحظة الراهنة، ويا أحرار العالم التفوا حول القرار السعودي، وهبوا لتعديل الهيئة والمجلس. والرسالة الثانية: للسفراء العرب الذين طالبوا المملكة بالتراجع، وأقول: ليتهم سكتوا على الأقل وهو أضعف الإيمان!!