نبتة مقلوعة كُتِب عليها خصام الجذور والترحل في كتاب الجغرافيا؛ تكرّ صفحاته بالمنافي وعذاب غريب تدحره طوابير الجوازات وتسلمه المطارات إلى أرصفة الوحشة، يدوّن على حجارتها فصولَ حكايته عن بيت لا بيت فيه. يكتب جملتَهُ الناقصة أبداً، تحرسه فراشةَ الحنين التي تكبر في التجاعيد وتمرّ بهشاشتها ترجف وترجّف. لا نافذة.. لا باب. عروقُ الحكايةِ في الشارع؛ تنفرُ في الشمس وتنفذ في الحبر حرارة ومرارة. نبتة مقلوعة تفدحُ بها الجهات وتصكها قرقعة الخُطى الذاهبة في اللامكان؛ الذائبة في النسيان. نبتة تغزر حكايتها في الشتات، وفي كل مفرق تذرف خصلة تبيض من وجع الانتظار ومن خديعة دخان لا يستوي ساحلاً ولا بيتاً. في هذا الدوار من الاقتلاع والبحث عن خشبة خلاص، يكتب الشاعر محمد جابر النبهان "حكاية الرجل العجوز" (مسعى للنشر والتوزيع، البحرين 2013). تطفو الذاكرة في هذا الكتاب/ القصيدة وتضربُ شوطَ الدم بين "هنا" ليس له وبين "هناك" ليس له أيضاً. يعلق الكاتب في المرور الصعب غير الخافت ولا الهيّن. كأنما هو الحصار يشتدّ ويتعالى كلما حطت السيرة بكلمتها وباحت بالمسمار المتروك يخدش جلدة العمر ويخلف فيها أثرا لا يمحي ولا يكف عن النز إذا ما استحكم الناقوس وأفرغ الهواء عن عصفور تجحده الشجرة ويلحقه الفضاء بشُهبه الحارقة. وربما يكون هذا الحصار هو المسؤول عن شرخ الذات وتعويمها في الظلال وفي الأنداد؛ تبرق بأشباه في الصعلكة والاحتيال على حديدة الوقت وبؤس الحياة.. وهذا الصدى نلمسه في تشكيل الكتاب من صوتين وهيئتين؛ المتن وله الأولوية والحجم وانطلاقته بفم الضمير المخاطب؛ والهامش وله النصف الأدنى والأسفل من الكتاب وشوكته هي الضمير المتكلم. إنّ انشقاق الكتاب إلى هذين الصوتين يشير إلى تمزّق الذات وحيرتها. تلوبُ مكويّةً في مرآة العالم؛ منذورةً لأبد من الطواف. تتخلع الأعضاء وتتناثر الأوراق مشكوكةً في سهم الغربة، ولا ثمة توقف أو مخرج: "كل غريب؛ إذا ضاقت بلاد قتل وردة أحلامه، طيّر فراشتها الوحيدة وانتهى في الرحيل .... كلُّ غريب.. رحيل" وتمثل مفردة "البيت" في الكتاب الجرح الكبير والفراغ الشاسع الذي لا تملأه المسافات ولا المدن التي يحل بها. يتردد البيت بشجن غامر؛ حامض ومر.. افتقاد البيت بما هو سكن وذاكرة وجذور وعنوان لوطن وصندوق بريد لهوية؛ يشكل القاصمة التي تجسد الفردوس المفقود وهناءة عالم لم يكن إلا برهة في حلم، وما تلاها إلا الكوابيس. البيتُ باعتباره حياةً وضوضاء وعائلة ومعارف وملتقى وشجيرات وهواء؛ ينحلّ في هياكل الغربة، وكل ما يذكر به إنما هو الضد من البيت ومن حالته. تنغزه الذاكرة في غير مكان وفي أكثر من ليل وليل لكأنها وجودَه الذي يستجره ويلأَمُ له ما يطابق كياناً يجدّ في تذرّره من نثار الطفولة وفجوات المراهقة ومن مطحنة حرب الخليج الثانية حين تُركت المنازل وغودرت فيما ثبتَ هذا "البدون" يرعى أمانة تخفف أصحابها منها ولم يلتفتوا، ويتعهّد شوكا سيظل معه يحز القلب. ينزل البيت عند النبهان منزلة الهويّة ومكانةَ البصمة وموضع الروح. ألم يقل باشلار إنّ "البيت هو ركننا في العالم".. وما عداه فهو اللاشيء والعدم وخُبْثُ الحياة على النحو الذي نقع عليه في صفحة "32" بفراغها العميم الممتلئ، الذي يتحدّد بكلمتين هما: البيت في أول الصفحة وأعلاها، والغياب في أسفل الصفحة ونهايتها، وبينهما المسافة كلها والبياض كله الذي يتعدّى التجسيد الفيزيائي إلى الواقعة الروحية بما تدلّ عليه من فوات ورحيل وتسجيل الاسم في دفتر الموتى، وهنا تلفت إشارة البياض إلى الشاعر أمل دنقل وقصيدته "ضد من" في أوراق الغرفة رقم 8 وقد استدعاه شاعرنا بمفردة مماثلة تستدعي النهايات، وقد جرى استلالها من حقل البرودة: (ورقي باردٌ.. وليس يدلّ عليه مكان أو بلاد أو غريب! بصمة كفي على ثَنْيَتِهِ باردة والشاي الذي اندلقَ من طرف لآخر.. بارد قلم الحبر، طاش من السطر، الممرضةُ التي وقّعتْ باسمها، باردةٌ..). "حكاية الرجل العجوز" تجربة في الانقطاع؛ الاقتلاع؛ معراج الغربة والنفي؛ بوابات تدور في قفل السفر.. كتبها النبهان بعصب مكشوف وحساسية شعرية لا يغيب عنها الجمال: "كل وطن ذاكرة وثمّة نسيانُكَ الأكبر". * كاتب سعودي