فرغت للمرة الرابعة من قراءة (حياة في الإدارة).. للراحل غازي القصيبي ذلك الإصدار الذي أوجز فيه تجربته الإدارية في العديد من المؤسسات والوزارات المختلفة. في كل قراءة لهذا الكتاب أجد في القصيبي بعدا إبداعيا آخر برؤاه ليكون استثناء التنمية والإدارة في أرقى صورها ومنجزها، هذه الاستثنائية الفريدة ألبسته التميز والتفرد في كثير من الأعمال التي تسنمها خلال مشواره العملي، وحسبه من هذا كله انقسام العامة والخاصة حول مآثره ونتاجاته المختلفة، وهذا بعد آخر من أبعاد تميزه وإبداعه. أعلم، كما يعلم الكثيرون، عن تفرد هذا الرجل وغزارة نتاجه الفكري والإبداعي، وعن غنى تجربته الإدارية التي ظهرت تجلياتها وما زالت علامات فارقة في مشوارنا التنموي المديد. كثيرون تناولوه كتابة ومقالة وتأليفا، ليكشفوا غموضا أو بعدا في شخصية هذا الرجل، وبنفس القدر ترصد آخرون بالنقد والإقصاء لكثير من أعماله الأدبية ومهامه الإدارية، ولكنه ظل عند كلا الفسطاطين محور جدل بالاختلاف تارة والاتفاق تارة أخرى. إن ميزة الولاء التي اتصف بها القصيبي تعد ميزة وبعدا آخر في شخصيته، وتتجلى هذه الصفة في (رأيي المتواضع) عند الأزمات، فعند إعفائه من وزارة الصحة، لم تتغير ثقة القادة فيه ولم يزده ذلك الإعفاء إلا حضورا وبقاء في ذاكرة ولاة الأمر كإداري نافذ يستعان به في المواقع الإدارية الأخرى وهو ما حدث لاحقا. إن عنصر الولاء والإيمان بالمبادئ في القصيبي وغيره يظلان البنية التحتية الأصيلة لكل مسؤول تسنم مسؤولية في أي موقع.. تأتي بعدها المؤهلات والخبرات. والولاء في المسؤول وغيره ليس مجرد شعارات أو تصريحات أو صور توضع في المكاتب.. الولاء استشعار للثقة والعمل على تحقيق الأهداف والقيم النبيلة التي يريدها ولي الأمر في كل شخصية تتصدر للمسؤولية خدمة للمواطنين. إن ولاء القصيبي هو الأساس الأول والبعد الحقيقي والأهم في مسيرته الفكرية والعملية التي سخر خلالها كل ملكاته ومواهبه الفذة لتكون رافدا يردف ذلك الولاء، وليكون مسك الختام لكل ذلك رسوخا في ذاكرة الجميع من أحب ومن سخط، وتلك لعمري ميزة العظماء وسر بقائهم أحياء في ذاكرة البشر وصفحات التاريخ.