كم نسمع من يردد أن التربية قبل التعليم، وأن الأولى هي الأصل، أو أنه إذا صلح الأصل أفضى بحتميته إلى صلاح الفرع، فلا يبنى على الحق إلا الحق، ولا يبنى باطل على باطل. ومضت تلك العبارة تؤسس فكراً لتقود به أجيالا تصل بهم إلى مستقبل مثالي مأمول، لترسم وجهاً مشرقاً لهذا التلازم البنائي المنظم التربية - ثم – التعليم. وبدأنا ننظر إلى المخرج وإلى المنجز وإلى الثمرة التي آتت أكلها لتطيب مذاقاً يظهر أثره جلياً على جيل طبقت عليه التركيبة اللفظية بما تتضمنه من وسائل مختلفة لتظهره أمام العصر شاهداً عليه وقائداً لنهضته ولاعباً هاماً لتطوره. بدأت التربية كمفهوم إجرائي شامخ، لا يخور له عزم.. تسير بخطى واثقة تتوثب الصمود وتتقوى بأجندتها المدروسة وخططها الدقيقة لتحاكي المستويات العمرية، فتبني لهم ما يناسبهم، آخذة بعين الاعتبار النسيج الاجتماعي المختلف وطبيعة البيئة ومرونة العادات، فتضفي بمنظومتها المتكاملة بجميع الاعتبارات المختلفة أثراً يتناسق مع معطيات ثقافية أساسية لتتناغم مع كل ذلك فتخرج النتائج المتوقعة والمؤمل عليها، وتكون هدفاً استراتيجياً ترنو نفوس المؤسسين إليه من أجل ملامسته واقعاً مشاعاً وتطبيقه تعايشاً فاعلاً. لكن.. هل تحقق من مضمون التربية أثر لأهداف يمارسها الجيل، أم إن التربية مغرقة في ذاتيتها؟ دع نظرك يتجول في الواقع الذي نعيشه الآن، فلا يخفى على كل متابع أن الجيل الحالي يشكل شريحة كبرى من المجتمع وهم الشباب دون الثامنة عشرة.. يمرون بمرحلة متذبذبة على مؤشر القيم، فتجدهم قد تشتتوا بين التوجيه الجامد والواقع المتجدد. التوجيه الجامد أعني به (الإجراءات المتبعة من خلال تنفيذ مفهوم التربية وفق معاييرها التي لا تتجاوز أسسا ثابتة دون محاولة تطبيقها واقعياً وممارستها حقيقياً وتنفيذها إجرائياً). وأما الواقع المتجدد فهو طفرة التكنولوجيا في جميع الجوانب الحياتية، وانفتاح المجتمع فكرياً وثقافياً، ومسلمات العولمة التي لا مفر منها.. فهل جمود التربية لدينا سيصمد أمام هذا الواقع الذي نما به هذا الجيل؟ إن من الضروري الآن إعادة النظر في البناء التربوي من حيث نوع التطبيق، وأن يكون مواكباً لكل جديد يطرأ على تشكيل الشباب وإعادة صياغتهم، فيكون هذا النموذج التربوي مرناً يجمع بين الثوابت الإسلامية التي هي منطلقة، وبين متطلبات العصر المتجددة بجميع أفكار هذا العصر والتي يتأثر بها الشباب. إن صياغة المفاهيم التربوية وسردها في قالب متسلسل.. تبنى على التلقين المجرد دون ممارسة تطبيقية عملية يستغل بها ربط الخارج الحياتي بالمنهج المادي ستؤدي بالضرورة لتفعيل مبدأ النموذج التربوي الثابت وغير المتوافق مع التجديد الذي نلمسه يزيد كل يوم، فلا يلبث الشباب إلا وقد أصبحوا متقمصين له بحذافيره، دون التكيف معه بشكل يتلاءم مع معطيات الثقافة الخاصة بالمجتمع. حينما يجد الشاب معالجة ناجحة وحلاً سريعاً لأي متغير فيستطيع مواجهته وفق النموذج التربوي الذي اكتسبه، فإنه لن يحيد عن الجادة ولن يتأثر، بل سيبقى بهويته الحقيقية والتي نراها بدأت تتغير أمام الجمود التربوي. ولو كان النموذج التربوي التوافقي حاضراً في قنوات التربية لما وصل الشباب إلى هذا الانسلاخ من هوياتهم الثقافية. وبالتأسيس التربوي وفق التحقيق السابق يمكن أن يدلف منه إلى التعليم كمرحلة ثانية تكون أداة تطبيقية متنوعة وفاعلة للنموذج التربوي المرن والتوافقي، فيكون التعليم بشتى صوره محققاً لروح التربية المقصودة، وبذلك يكون العنوان الكبير (التربية - ثم - التعليم).. نستطيع أن نخوض غمارها بحمل لواء الواقعية المؤدية إلى النتائج المرجوة دون الفصل الذي نراه اليوم والذي لا تستطيع مشاهدته إلا إذا وقفت على واقع الجيل الحالي وشاهدت بأم عينك الانفصال الواضح والانفصام الظاهر (فيما) يكتسبه (وفيما) يطبقه. أما إذا عنينا بالعنوان فقط فلن تتجاوز عبارته استفتاحية المناهج والوسائل التعليمية فقط، وسيحاسبنا هذا الجيل على الإسراف في المثاليات وتفريغ المبادئ التربوية من روحانياتها.