يشهد العالم العربي جملة من التحولات الجذرية والتغيرات المتسارعة،مما يحتم على التربية وتطبيقاتها تحديات كبيرة في قضايا الواقع المحلي و الإرث الثقافي، و الاتجاه نحو العالمية، وآفاقها المتجددة في ظل التعددية الفكرية، وما تقتضيه من مرونة الفكر، واستيعاب قضايا التلاحم الفكري ، و الأهم من ذلك استيعاب الهزات الناجمة و الناتجة عن الربيع العربي . تعتبر التربية عبر العصور المختلفة هي الوسيلة الحقيقية و الفعالة لمواجهة التغيرات والتحولات من خلال بناء المواطن الصالح لمواجهة التغيرات والتحولات من خلال الإعداد الجيد و التنفيذ المحكم الدقيق و التقويم القويم ، وبلورة الاتجاهات وتكييف الممارسات بما يخدم مصلحة الأمة ويحافظ على بقائها واستمرارية نموها ، من هنا هناك حاجة تبدو ملحة و اسة لتربية ريادية متطورة قادرة على مجابهة التحديات من جهة، و صناعة المستقبل من جهة أخرى. من المعروف إن التربية تشكل الحاضر و تسهم في بناء الغد وتسهم في صناعة الإنسان ،هناك مجموعة من التحديات الكبيرة التي تواجه كافة الأقطار العربية سواء كانت مجتمعة أو منفردة ، مثل هذه التحديات يمكن التغلب عليها في حال وجود تربية ريادية عربية حكيمة و سليمة و راشدة . إن التحدي الأول الذي يواجه التربية العربية يتمثل في الجانب السياسي من خلال إشاعة المفاهيم الديموقراطية وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات الحاسمة ، ومواجهة أخطار تجزئة الدول العربية وبلقنتها وتفتيتها إلى دويلات صغيرة ، وإعادة بناء النظام العربي على أساس واقعي ترفده الثوابت والروابط الحضارية والتاريخية الواحدة. أما التحدي الثاني فيتمثل في ضعف الناتج العربي وقصور الانتاجية ، لدرجة أن قيمة إجمالي الناتج المحلي لدولة أوربية مثل أسبانيا يعادل قيمة إجمالي الناتج المحلي للدول العربية مجتمعة ، إضافة إلى اختلال هيكل الإنفاق لصالح قوة الاستهلاك حيث يوصف المجتمع العربي "بالمجتمع الاستهلاكي" ، وضعف التجارة البينية بين الدول العربية ، وعدم الاستعداد والتهيئة الكاملة لمواجهة الآثار الاقتصادية المترتبة عن الاختلالات في الاقتصاد العالمي . يتمثل التحدي الثالث في عدم مجاراة الثورة المعلوماتية و التقنية العالمية في مناحي الحياة المختلفة ، والاكتفاء بقشور هذا التقدم أو الانغماس في جوانبه الاستهلاكية وتطبيقاته الهامشية دون الولوج إلى خفاياه وأسراره. وعلى الرغم من التأثيرات الخطيرة التي أفرزتها الثورة العلمية والتقنية والمعلوماتية وتطبيقاتها المتعددة والمتنوعة إلا إننا نلاحظ ضعف توظيف تقنية المعلومات والاتصالات في البلدان العربية ، والاستمرار في سياسة الاعتماد على استيراد التقنية الجاهزة ، وعدم إعطاء أولوية خاصة للبناء العلمي للمواطن العربي وتنمية قدراته وتطويرها وتذليل كافة الصعوبات والعقبات التي تحول دون إطلاق الطاقات الفكرية المبدعة من أبناء الأمة العربية للمشاركة الفاعلة في توطين التقنية. ومن هنا يقع على عاتق التربية الريادية المرجوة تحفيز تعظيم الفائدة من تقنية المعلومات والاتصالات في شتى السياقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية و الإعلامية والتربوية. أما بخصوص التحدي الرابع فهو يتعلق بالاختلال الذي طرأ على المنظومة القيمية الناتج عن التغيرات غير المنضبطة في العالم العربي ، وبالتضارب الفاضح بين مؤسسات التنشئة الاجتماعية نتيجة الهيمنة الثقافية والإعلامية لما يسمى بدول المركز التي استطاعت في أغلب الأحيان التسلسل إلى عقول الناشئة والشباب ، وقدمت النموذج الغربي على وجه الخصوص بأنه النموذج الأمثل للحياة الثقافية والاجتماعية الراقية. هناك ثمة مبادئ تعتمد عليها التربية الريادية منها إعادة صياغة البنية التعليمية فيما يطلق عليه علماء التربية هيكل " الشجرة التعليمية " بدلاً من هيكل " السلم التعليمي ". و التأكيد على القدرات الذهنية للتعامل بشكل سليم مع المجهول ، بديلاً عن الاقتصار على مجرد الإلمام بالمعلوم، و فك الارتباط بين الشهادة والوظيفة، ووضع استراتيجيات وسياسات تعليمية يتبناها المجتمع ويلتزم بها بحيث لا تخضع سياسات التعليم وقراراته للأهواء الشخصية أو الضغوط الوقتية أو القرار السياسي ، و التطوير الكامل لوظيفة التعليم كمهنة لها قواعدها ومواصفاتها وأخلاقياتها وظروف عملها، و التركيز على التربية التغيرية لا التدويمية ، بحيث تستجيب التربية للمتغيرات والمستجدات وتتواءم مع المتطلبات والاحتياجات التي يفرضها زمن التغيرات السريعة المتلاحقة، و التأكيد على التربية الانتاجية لا الانغلاقية ، بحيث تنفتح على تجارب الأمم وثقافاتهم وحضاراتهم وتتفاعل معها لكن بوعي وإدراك. على مؤسسات التربية الريادية الاضطلاع بدورها المستقبلي المأمول من خلال رؤية استراتيجية طموحة واضحة المعالم ترنو إلى إعداد جيل متمسك بهويته الحضارية والثقافية ، والقادر على التعامل الواعي مع جميع التحديات سالفة الذكر . ومن هنا لا بد أن ترتبط التربية الريادية بوضع الاستراتيجيات والسياسات والبرامج التي تؤدي إلى الاستخدام الأمثل للموارد والامكانات المادية والبشرية لتحقيق بناء المجتمع المتطور في شتى المجالات التربوية و السياسية الاقتصادية والاجتماعية.ولكي تحقق التربية الريادية غاياتها لابد أن نجمع بين الأصالة والمعاصرة بحيث لا تعنى بتنمية الجوانب المادية للمجتمع وتهمل الجوانب الروحية والثقافية والاجتماعية وتمسخ الهوية الحضارية. الدكتور عويد عوض الصقور – كاتب و تربوي أردني [email protected]