لا ينطبق على ما حصل بين "الوطن" و"العم" عويدي محمد (64 عاما) إلا المقولة الشهيرة: "رب صدفة خير من ألف ميعاد". فالعويدي الذي التقته "الوطن" في جولتها بتهامة قحطان وتحديدا في طريق الفرشة قرب مستشفى، له مع "الوطن" حكاية لا يزال يرويها وهي نشرها موضوعا عن معاناته في عددها الرقم 334 والصادر في 19 أغسطس 2001. ويقول: "يومها شكوت من بطء الإجراءات والإهمال وعدم الرعاية التي تعرض لها اثنان من أطفالي المعاقين. وبحمد الله "زهراء" تم قبولها في مركز التأهيل المهني للمعاقين بالطائف، وهذا العام تبلغ 15 حولا".. سدت الغصة حلقه وقطرت دمعتان حارتان على وجنتيه وهو يتذكرها ويضيف: "زرتها آخر مرة قبل 6 أشهر، عرفتني وقبلتها لكنها لم تنطق ببنت شفة.. وأتاح المستشفى لي أن أمكث معها فترة، وجدتها في حال أحسن مما لو كانت عندي.. "زهراء" التي تعاني من مرض جعلها غير قادرة على الوقوف ولا الجلوس، ويؤكد ذلك تقرير طبي يفيد بأنها تعاني من شلل دماغي ويوصي بمتابعة حالتها طبيا وعلاجيا. ولدى "العم عويدي" ابن كان يعاني من شلل دماغي "تشنجي"، وأصبح الآن شبه قادر على مواصلة دراسته لكن مع تعثر في تحصيله العلمي. فرحة لم تكتمل عندها قررت "الوطن" أن تشمل زيارتها أسرة عويدي في وادي سريان (28 كيلو مترا غرب مركز الفرشة)، تصل إليها عبر طريق وعر وغير ممهد وتقطع مسافة لأكثر من ساعتين ونصف الساعة. وعند وصولنا رأينا الأسرة تفترش الأرض وتلتحف السماء، بعدما أصيبت بمعاناة إضافية تمثلت بإصابة زوجته عويدي وأخته بفشل كلوي حاد يضطرهما إلى مراجعة مستشفى سراة عبيدة صيفا، ومستشفى الفرشة شتاء لإجراء عملية "الغسيل الدموي". الزوجة أم لتسعة أطفال والأخت أم لخمسة أطفال، وهما تراجعان قسم الغسيل الكلوي ثلاث مرات أسبوعيا وهو ما لا تستطيع الأسرة مقابلة تكاليفه مع مشكلاتها المتعددة. ولم ينس عويدي أن يشكر من وجه بعلاج زوجته وأخته على نفقته في الباكستان، بزراعة كُلى، لكن الفرحة لم تكتمل حين وصلت الأسرة هناك، وتم اكتشاف أن الحالتين تعانيان من التهاب الكبد، وهو ما تعذر معه الزراعة. ولفت العم عويدي إلى أنه لم يعد قادرا على إكمال عمارته بسراة عبيدة، نظرا لضيق ذات اليد وللمصاريف الكبيرة التي تحتاجها الأسرة، مؤكدا أن له معاملة "بحث حالة" في وزارة المالية منذ 6 سنوات، ولا يدري عن مصيرها شيئا، متمنيا أن يحصل على سيارة لأسرته المعاقة للتنقل بهم ومتابعة العلاج. التثقيف يغلب في تهامة قحطان حال "الوضع الصحي" ومعه حال "الوعي الصحي" بالرغم من كل الجهود التي تبذلها الدولة ممثلة في وزارة الصحة، وفي إطار خطط استراتيجيتها العامة، ولعل أنشطة التثقيف الصحي القائم على مهارات التواصل الفعال في المجتمع تمكن الناس أكثر من اكتساب المعلومات والمهارات اللازمة للحفاظ على صحتهم وتحسين نمط سلوكهم ونوعية حياتهم، وذلك من خلال تزويدهم بالمعلومات والمفاهيم الصحية التي يحتاجون إليها في سبيل مساعدتهم على معرفة الأسباب والدوافع الكامنة حول مرضهم. "اللبخ" الباسق وأثناء الجولة في تهامة قحطان، قصدنا متنزها طبيعيا عند مثلث "شني" يسارا إلى مركز الربوعة، كحلا، تشوية ووادي حمر في جازان، ويمينا إلى ودي الحيا، فجبال الحشر. سلكنا الطريق اليمين بمسافة 3 كيلو مترات لننعطف بعدها ونسلك طريقا أخف وعورة من جبال "عمس"، وصولا إلى مركز "خشم عنقار" الذي تدل عليه أشجار "اللبخ" الباسقة. وبحسب دراسة أعدتها مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية ممثلة في معهد بحوث الموارد الطبيعية والبيئية عام 2002، فإن المملكة هي الموطن الأصلي الوحيد لشجرة "اللبخ" العملاقة التي يتجاوز ارتفاعها 30 مترا، ويبلغ قطرها 3 مترات وعمق جذورها إلى حوالي 2.5 متر. وتنتشر هذه الشجرة بالحالة الطبيعية في بعض أطراف وادي ذبح في مركز "خشم عنقار"، حيث الطبيعة الجبلية الوعرة والوديان دائمة الجريان طوال العام. ومع ما أولته الهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية وإنمائها لهذه الشجرة من اهتمام خاص، إلا أن الشجرة العملاقة مهددة بالانقراض. خشم عنقار نواصل الرحلة حتى مركز "خشم عنقار" جنوب الفرشة مرورا بمثلث "شني" حتى انحدر بنا الطريق جنوبا داخل القرية، وهناك أوضح الأهالي أن معاناتهم تبدأ في سلك تلك الطرق الوعرة التي أنهكتهم وآلمتهم. ويقولون إنهم يعيشون حالة من العزلة في حال هطول الأمطار حيث تغلق السيول الطرق وتمكث المياه بالأشهر في تلك الأودية، مما يحول دون عبورها والوصول إلى ذويهم أو الحصول على لقمة العيش. وفي هذا السياق يبين نائب خشم عنقار سلمان سالم، أن مطالبهم تتمثل في افتتاح مخفر للشرطة، ومركز ل"هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن منكر"، ومركز صحي، لافتا إلى عدم وجود خدمات البلدية، إضافة إلى مطلب إيصال الهاتف الثابت وشبكات جوال، لا سيما أن الكوابل المؤدية إلى نجران وجازان تمر من مدخل قراهم. ثانوية ولفت عايض سالم إلى ضرورة تلافي الوضع "المأساوي" كما أسماه لطلاب وطالبات المركز في ظل عدم وجود ثانويات بنين وبنات بالقرية ليتسنى لأولادهم وبناتهم إكمال الدراسة، علما أن هناك من تخرج منهم ولم يكمل دراسته لبعد المدارس المجاورة لها وأقرب مدرسة منهم تبعد حوالي 30 كيلو مترا ذهابا وإيابا عبر عقبة الفرشة التي تشكل خطورة عليهم، وكذلك بين أنهم بحاجة إلى سقيا، وأن مجمع البنات الحكومي يعاني من هبوط حاد في البلاط وأرضية المبنى وتصدعات في هيكله العام. وفي المقابل أكد مدير التربية والتعليم في محافظة سراة عبيدة الدكتور هشام الوابل عدم صحة تصدع المبنى، وأن لجنة فنية من قبلهم، ساندتها لجنة محايدة، وأكدتا أن المبنى سليم إنشائيا، هناك تصدع تحت (الميدة)، لكنه لا يشكل خطورة على المبنى، وأنه تم الانتهاء من مقايسة ترميم كامل للمدرسة، لافتا إلى أن الإدارة ستتحمل نفقات جسر استنادي قريب من الوادي ليكون مصدا لمياه السيول، وليكون درعا أولية لحماية المبنى. لا مدارس ولا كهرباء والحال في قرى "سحب" و"نتاور" و"الضالعة" و"قاعين" (شرق مركز خشم عنقار) لا تختلف كثيرا إذ أكد النائب مفرح آل غراب أن معاناتهم تتمثل في عدم وجود مدارس نهائيا، مستدركا بقوله إن أبناء هذه القرى ينقلون إلى المدارس عبر سيارات دفع رباعي والبعض منهم بالمنازل، مطالبا تعليم سراة عبيدة بالإسراع في إيجاد مثل هذا المرفق الهام. وذكر أن أكثر هذه القرى لم يصلها الكهرباء نهائيا، مشيرا إلى أن هناك لجنة سبق وأن شكلت من قبل رئيس مركز الفرشة "للوقوف على معاناتنا ولكن لم يتحقق شيء على أرض الواقع". عشة مداوي حالات متفرقة في قرى وهجر تهامة تفتقر للرعاية، ومن هذه الحالات المواطن مداوي مسفر فرحان الذي قضى جل حياته في مسكن عبارة عن "عشة" مبنية من الحجارة ومغطاة بشراع بلاستيكي لا يحميه من برد الشتاء القارس ولا من حرارة الصيف وهجيره ليس عليها باب، مؤكدا أنه ينام على فحيح الأفاعي. وتحدث مداوي من "عشته"، عن قصة حياته حيث يروي بلغة بدت عليها الشيخوخة، ولا نكاد ندرك منها إلا القليل، أنه من سكان قرية قاعة بتهامة قحطان وعمره تجاوز ال88 عاما ولا يستطيع القيام بحاجياته بمفرده، وهو أعزب طيلة حياته، ولا يود أن يغادر مكانه. وقال: هنا ولدت وهنا أموت". ذاك المسن تقوم على رعايته أسرة أقامت له عشة بجوارهم، يوفرون له الأكل والشرب، موصلين له مصباحا كهربائيا، وليس لديه دورة مياه أو مطبخ. وقال: أمنيتي أن أجد مسكنا لو غرفة واحدة، وأتمنى أن يكشف وضعي للشؤون الاجتماعية عن معاناة أسر أخرى بنفس معاناتي. وفي المقابل أكد رئيس مركز خشم عنقار عبدالرحمن مسعود السريعي أن طلبات الأهالي سترفع للمحافظة، تمهيدا لعرضها على المجلس المحلي.