بعد 9 أعوام متتالية تعلن فيها المملكة ميزانيات قياسية من حيث مستوى الإنفاق، وتصاعد الوتيرة في مخصصاتها للإنفاق على المشروعات الجديدة بما يساهم في بناء الاقتصاد واستكمال ونشر وتعزيز التنمية. هذه الوتيرة التصاعدية في الإنفاق المتواصل عاما بعد عام، وما أدت إليه من انعكاسات إيجابية دفعت بمعدلات التنمية إلى تحقيق أرقام مهمة، حيث شهد عام 2011 أعلى مستوى من الإنفاق في تاريخ المملكة، إذ بلغ إجمالي الإنفاق 804 مليارات ريال، بزيادة قدرها 38,6% عن الميزانية التقديرية، ولترتفع أيضا بنحو 23% عن النفقات الفعلية لعام 2010، انعكست إيجابا على قطاعات الإسكان، والتوظيف، والتعليم، والضمان الاجتماعي، والاستثمار، ومنشآت الأعمال الصغيرة والمتوسطة. وعلى الرغم من هذه انعكاسات إيجابية الانعكاسات الإيجابية، وارتفاع ترتيب المملكة في عدة تقارير دولية رسمية أكدت متانة الاقتصاد السعودي، وارتفاع مستويات التنمية إلى معدلات مرتفعة، إلا أن هذا التطور في تحسن مستوى التنمية، صاحبه تضخم وارتفاع في أسعار سلع أساسية، إضافة إلى تعثر وتأخر بعض المشروعات التي أقرتها موازنات الأعوام الماضية، الأمر الذي دفع بأكاديمي وخبير اقتصاديين تحدثا ل"الوطن"، بإيجاد آلية للتأكد من أن المشروعات تنفذ ضمن حدود الزمن المحدد لها، مطالبا أحدهم بالاهتمام بالجانب الاجتماعي ومعالجة 3 قضايا أساسية هي الفقر والبطالة والإسكان. وطالب الخبير الاقتصادي إحسان أبو حليقة في حديثه ل"الوطن" بأن تراعي ميزانية العام الحالي ثلاث قضايا أساسية في الجانب الاجتماعي هي قضايا الفقر والبطالة والإسكان، داعيا إلى معالجتها وإيجاد الحلول لها بطرق غير تقليدية، مؤكدا أنه في حال تم إيجاد انفراجات وتحقيق إنجاز ملموس للمشاكل الثلاث، سيتحقق تغير في حياة العديد من الأسر والأفراد السعوديين إجمالا، وسيدفع بمؤشر التنمية البشرية إلى معدلات مرضية ومرتفعة. كما شدد أبو حليقة على أهمية الاعتناء بقضية التنمية المتوازنة لتنتقل من كونها طرحا نظريا إلى حقيقة عملية، وهذا يعني عدة أمور منها الحرص على تنفيذ المشروعات في وقتها دون أي تأخير، إذ إن بعض المشروعات هي بمثابة المغناطيس التنموي الذي سيحرك ويقود التنمية في مناطق المملكة المختلفة، معتبرا المشروعات التنموية والمشروعات الإنتاجية العملاقة التي تقوم بها الدولة بالنقلة النوعية في حياة الناس اقتصاديا واجتماعيا، والتي لا بد أن تطال ال13 منطقة إدارية في المملكة لتحقيق نوع من الاستقرار في سوق العمل، والدور الإنتاجية المحلية ولو كانت بسيطة وبدائية، وهو أمر أساسي لتحسين كفاءة توزيع الدخل. وعن التزايد في الإنفاق، قال أبو حليقة إنه يبدو أن الاقتصاد السعودي وصل إلى نقطة ما بعد الإشباع في الإنفاق، مضيفا: "بمعنى أن الميزانية أصبحت عالية جدا وهذا الإنفاق من الصعب أن يستمر لسنوات طويلة قادمة، وعلى الرغم من الزيادة الكبيرة في المشروعات وتعثر نسبة منها إلا أن المؤمل طرح المزيد من المشروعات وتنفيذ القائم حاليا". لا ضمانات وأشار أبو حليقة إلى أنه لا توجد ضمانات بأن يبقى سعر النفط في حدود 100 دولار مستقبلا، إذ إنه في حال انخفاضه سيكون هناك تراجع يعيد الاقتصاد المحلي إلى وضعه في عام 1999، عندما تراجع النفط إلى ما دون العشرة دولارات، أو إلى حقبة الثمانينات عندما كان الإنفاق أعلى من الإيراد وبقيت الميزانية العامة تعاني من عجز على مدى 25 سنة، داعيا إلى الاستفادة من هاتين التجربتين التي مرت بهما الميزانية. من جهته قال مدير مركز التميز للدراسات المصرفية والتمويل الإسلامي التابع لمعهد البحوث في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، الدكتور صلاح الشلهوب ل"الوطن"، إن مستويات الإنفاق المتزايدة في ميزانيات الأعوام الماضية انعكست إيجابا على إيجاد مشروعات تنموية ضخمة أسهمت في رفع الناتج المحلي، إذ إن الاهتمام المتواصل بالتعليم العام والعالي سواء ببرامج المنح التعليمية أو التوسع بإنشاء الجامعات زاد كفاءة الموارد البشرية، وأوجد فرص عمل وهو محور آخر، حيث اهتمت المملكة بزيادة معدلات التوظيف في القطاع الحكومي وزيادة المخصصات فيه، مما انعكس إيجابا على مستوى المعيشة، إلا أن هناك تحديات تفرضها الظروف الاقتصادية العالمية مثل غلاء الأسعار، والظروف المحلية المتمثلة في تأخر وتعثر المشروعات أثرت نسبيا على هذه البرامج فيما يخص برفاهية المواطن. وأضاف الشلهوب أن قضايا التضخم وارتفاع الأسعار وارتفاع عقود التشغيل والتوظيف أدت بدورها إلى ارتفاع تكلفة المشروعات مما أثر على سير المشروعات وزيادة مخصصاتها من الإنفاق، مما زاد التكلفة على الدولة، مبينا أن هناك مشروعات تعاني من بطء في التنفيذ لها مبرراتها وأسبابها، في حين أن هناك مشروعات تحتاج إلى تفصيل وتوضيح حول تأخرها، إذ لا بد من مزيد من الشفافية في إعلانها. وعن توقعات الشلهوب، حول استمرار الدولة في زيادة الإنفاق، توقع أن لا تكون بنفس الوتيرة التي كانت في السابق، إلا أنه رجح استمرار الإنفاق على المشروعات التنموية والبنى التحتية وغيرها، إذ قال إنه من المتوقع أن تسجل ميزانية العام الحالي أرقاما ضخمة، توازي الأرقام المعلنة خلال العامين الماضيين أو تزيد عنها. أما أبو حليقة فذكر أن الأعوام الماضية شهدت تطور نوعي في الميزانية العامة للدولة، بتخصيص المزيد من الأموال للأنفاق الرأسمالي، والذي تمثل في مشروعات تنموية، مبيناً أن هذا الأمر سيحقق أمرين أساسيين الأول أنه سيدفع التنمية قدماً من خلال توفير عناصر لهذه التنمية منها على سبيل المثال المدارس والمستشفيات ومراكز الرعاية الصحية الأولية والطرق والجسور والأنفاق وغير ذلك، والأمر الآخر هو أن هذه المشروعات الرأسمالية تساهم في زيادة سعة الاقتصاد على النمو، بتحديث البنية التحتية واستكمالها، مما يعزز العملية الإنتاجية ويساعد الاقتصاد على تحقيق مزيد من النمو. وهنا استدرك أبو حليقة بقوله: "لكن هذه الصورة السلسة البراقة شابها تعثر في نسبة لا بأس بها من المشروعات مما يؤثر على مسيرة التنمية والنمو"، مشيراً إلى وجود تحدي كبير حول طمأنة أي زيادة في الإنفاق حول كيفية أن تصل إلى الأكثر احتياجا، وكيفية الارتقاء بكفاءة توزيع الدخل والتأكيد على محاصرة الفقر والسيطرة عليه، مشيراً إلى المحاولات التي استهدفت زيادة عدد المستفيدين من برنامج الضمان الاجتماعي في السنتين الأخيرتين وزيادة التوظيف في القطاع الحكومي مما استقطب عشرات الآلاف من المواطنين بعد أن كان هذا الباب مغلق. مبدأ الشفافية وأكد أبو حليقة على أهمية إيجاد آلية جديدة لمراقبة المشروعات وتطبيق مبدأ الشفافية بالإعلان عنها وعن مدد تنفيذها، مضيفا: "فالآلية القائمة حاليا واضح أنها غير صالحة لهذا الزخم الكبير من المشروعات العملاقة المتعددة في تخصصاتها وبعضها يمثل تحديات هندسية كبيرة وجديدة وعملاقة، مبينا أن هذه المشروعات التنموية التي يعول عليها لتحقيق نقلة نوعية اقتصاديا واجتماعيا في المملكة، لا بد أن تنفذ وتدار بإطار بالغ الشفافية. يذكر أن المؤشرات الاقتصادية تتوقع بأن المملكة ستحقق إيرادات حقيقية تصل إلى 1.2 ترليون ريال، بناء على استقرار أسعار النفط في مستويات مرتفعة خلال العام الحالي. وكانت الموازنة العامة للدولة قد استمرت العام الماضي في تحقيق فوائض مالية عالية مدفوعة بتطورات الطلب والعرض في أسواق النفط خلال العام، إذ ساهمت زيادة أسعار النفط ومستويات الإنتاج في ارتفاع الإيرادات النفطية الحكومية بنسبة 49.7% عن عام 2010 لتصل إلى 1110 بلايين ريال، محققةً فائضا قياسيا بلغ 306 مليارات ريال، ما يمثل 14.0% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة مع 88 مليار ريال للعام 2010. كما أن مستويات الإنفاق للعام 2011 أتت هي الأخرى قياسية لتبلغ 804 مليارات ريال على خلفية المراسيم الملكية التي صدرت في الربع الأول من العام، والتي اشتملت على برامج اجتماعية وتنموية متعددة قدرت إجمالي نفقاتها بنحو 400 مليار ريال، في حين من المتوقع أن يكون قد تم صرف ما مقداره 110 مليارات ريال خلال عام 2011. واستفادت المملكة من فوائضها المالية في خفض الدين العام، والذي بلغ نحو 690 مليار ريال في عام 2002، ليصبح في عام 2011 أحد أدنى الديون الحكومية على نطاق العالم. ويعود معظم هذا الدين إلى صندوقي التقاعد (المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، والمؤسسة العامة للتقاعد)، في حين يعود الباقي للبنوك التجارية. وبينما شهد عام 2010 المزيد من الانخفاض لحجم الدين العام، من 225 مليار ريال إلى 167 مليار ريال، مشكلاً نسبة 10,2% من الناتج المحلي الإجمالي، فقد تراجع هذا الدين إلى 135,5 مليار ريال، ليمثل 6,3% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2011. ورغم ذلك، تتوفر للحكومة احتياطات أكثر من كافية لسداد الدين العام بمجمله، إلا أنها لا تميل إلى هذا المسار، خاصة وأن تكلفة خدمة الدين منخفضة حاليا، ولا تزال الحكومة، ولها مبرراتها، تفضل أن تنفق الأموال في تمويل خطط الإنفاق داخليا وأن تبقي جزءا من فوائض النفط كاحتياطي للدولة في استثمارات أجنبية تتم إدارتها من قبل مؤسسة النقد. كما استمرت الدولة في تحويل جزء من فوائض الإيرادات النفطية إلى احتياطي الدولة والذي ارتفع بوتيرة عالية ابتداء من عام 2003، إذ يقدر أن يتجاوز تريليون انعكاس مالي ريال بنهاية عام 2011. وقد انعكس ذلك على المركز المالي الخارجي للاقتصاد السعودي ليرتفع صافي الأصول الأجنبية والذي يشتمل أيضا على غطاء الريال السعودي، حيث نما في عام 2010 بمعدل 8,6% إلى 1,65 تريليون ريال، في حين حقق ارتفاعا قياسيا إلى 1,88 تريليون ريال فيما مضى من عام 2011، مع بقاء النسبة الأكبر منه مقومة بالدولار الأميركي مع تمتعه بمستوى سيولة عالية. وحقق الناتج المحلي الإجمالي ارتفاعا كبيرا بمعدل 28% بالأسعار الجارية لعام 2011 ليبلغ 2163 مليار ريال. وبعد أن نما بمعدل 4,1% بالأسعار الثابتة في عام 2010، فقد ارتفع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 6,8% لعام 2011. وبذلك يبقى القطاع النفطي محور النشاط الاقتصادي في المملكة، ليس فقط في توفير المكون المالي الرئيسي لخطط الإنفاق الحكومي بل إلى جانب تعزيز حالة التفاؤل لقطاع الأعمال.