سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
يفوز بالنقاط.. ويصنع "أميركا الجديدة" - شعار الولايات المتحدة "لن تتدخل ولن تفرض ولن تحارب ولن تضغط".. لن يدوم . - فتح الملف السوري انطلاقا من معاناة الشعب المأساوية اليومية .
تمكن الرئيس الأميركي باراك أوباما من انتزاع فوز صعب من أنياب أزمة اقتصادية خانقة، وهجوم عنيف من معارضيه، تناول سياساته الداخلية وحقيقة تاريخية تقول: إنه لم يسبق أن فاز أي رئيس بفترة رئاسية ثانية ونسبة البطالة في الولاياتالمتحدة تفوق 7,1% منذ فرانكلين روزفلت (ونسبة البطالة الآن تصل إلى 7,9%) وتخبط في السياسة الخارجية، وتململ حتى من داخل الحزب الديموقراطي نفسه. فكيف تمكن من انتزاع ذلك النصر؟، ثم ما النتائج التي يتعين على العالم – لا سيما الشرق الأوسط – انتظارها بعد نتائج انتخابات السادسس من نوفمبر؟. الفوز وسياقه تتلخص قصة فوز أوباما في عنوانين عريضين. الأول هو حالة الانقسام الشديد داخل الحزب الجمهوري وداخل قواعده الانتخابية. والثاني هو الدقة البالغة التي اتبعها الرئيس الأميركي في بناء آلته الانتخابية على أساس من عناصر لم تكن معروفة من قبل – من الوجهة الفنية إن جاز التعبير – في المعارك الانتخابية الأميركية. ولا يمكن قراءة هذين العنوانين بصورة صحيحة، إلا بوضعهما في سياق أوسع مدى من أي منهما على حدة. ذلك أن انقسام الحزب الجمهوري، ونجاح حملة أوباما في تنظيم قواعدها وبناء تحالفاتها على المستويات المحلية جاءا في لحظة تتسم بانقسام الأميركيين أنفسهم بصفة عامة حول رؤى مختلفة لمستقبل بلادهم. ولا يعني ذلك أن الأميركيين قد خدعوا بالدعاية الديموقراطية، أو نفروا من الشعارات الجمهورية. إنه يعني أن هناك باختصار تصورات مختلفة حول ملامح الدرب الذي ينبغي أن تسلكه الولاياتالمتحدة في المستقبل. فالعنوانان الكبيران اللذان يختصران مسببات نتائج المعركة الانتخابية الأميركية لا يمكن فهمهما بمعزل عن هذا الشق الكبير داخل المجتمع الأميركي نفسه. التطرف الجمهوري وفي حالة العنوان الأول أي انقسام الحزب الجمهوري من الداخل، فإن الصورة على إجمالها تقول: إن هناك معسكرين أساسيين في الحزب. الأول حسن التنظيم والتمويل – وان كان أقل عددا - ويتبنى أراء يمينية متطرفة مثل حزب الشاي، الذي أدى حمق مرشحيه إلى خسارة الجمهوريين لأربعة مقاعد في مجلس الشيوخ، ومثل المسيحيين المتطرفين والمحافظين الجدد. والثاني هو معسكر يمين الوسط الجمهوري الذي كان آخر من عبر عنه باقتدار جورج بوش الأب وطاقمه من قيادات الجمهوريين، التي أفلت تحت طرقات المتطرفين من قبيل جيمس بيكر وزير الخارجية الأسبق والجنرال برنت سكاوكروفت، والجنرال كولن باول وغيرهم. وبسبب التنظيم والتمويل الجيدين، والسيطرة على مفاصل الحزب وعلى أجهزة الإعلام القريبة منه أقصى هؤلاء المتطرفون المعسكر المعتدل عن واجهة الحزب. وحين ينزع الساسة إلى التطرف في مثل تلك المواقف، فإن عليهم مواجهة هزيمة مؤكدة إن عاجلا أو آجلا. فالناس بفطرتها تميل إلى الوسط في كل شيء. إلا أن الأمر لم يكن أمر خسارة معسكر المعتدلين في الحزب أو من يسمون بالواقعيين فحسب، بل تعداه إلى التسبب في خسارة الحزب كله. لقد اضطر ميت رومني إلى إرضاء الكتلة الزاعقة في الحزب أي كتلة المتطرفين باختيار بول رايان نائبا، وبالتخلي عن مواقف معتدلة كثيرة سبق أن تبناها هو نفسه حين كان حاكما لماستشوستس. مساكنة غير شرعية ذلك أن رومني نفسه يحسب تاريخيا على معسكر المعتدلين في الحزب الجمهوري. ولكن تنازلاته المتصلة للمتطرفين أفقدته الكثير، لا سيما في صفوف النساء والأقليات. وواضح أن المرشح الجمهوري كان يواجه خيارا صعبا. فإما أن يتنازل للمتطرفين أو يخسرهم. والمشكلة الحقيقية هي أن القيادات المعتدلة في الحزب الجمهوري الآن، تعيد إلى الأذهان ما يقوله الأزواج المجربين من أن النساء لا يمكن العيش معهن أحيانا، ولا يمكن العيش بدونهن في أغلب الأحيان. ذلك أن من الصعب على أي معتدل في الحزب أن يصعد دون أن يحصل على دعم المتطرفين، مقابل تبني أجزاء كبيرة من برنامجهم إلا أنه لا يستطيع أن يفوز إذا ما تبنى أقساما كبيرة من برنامجهم. فذلك البرنامج ذهب إلى تطرف نيوت جينجريتش، وريك سانتورم، ولم يذهب وجهة اعتدال برنامج جورج بوش الأب. فقد تحكم المتطرفون في مفاصل الحزب جميعا على نحو جعل من الصعب على أي قيادة أن تصعد دون المرور بهذه المصفاة، التي ينسق أعضاؤها عن كثب فيما بينهم للحصول على حصة من الكعكة السياسية تتجاوز كثيرا وزنهم الفعلي في الشارع. تباعد الجمهوريين وأدى ذلك بطبيعة الحال إلى انفصال بين الحزب وقواعده. فليس من النادر أن تجد في الولاياتالمتحدة جمهوريين مخلصين يقولون: إنهم فقدوا القدرة على التعرف على الحزب الذي أخلصوا له طيلة مشاركتهم السياسية. وكان من شأن ذلك أن يؤدي بطبيعة الحال إلى خسارة الحزب أمام رئيس لم يتمكن من حل الأزمة الاقتصادية، ولم يتمكن من توسعة الدور القيادي للولايات المتحدة على الساحة العالمية، وتسبب في كوارث للبلاد، ليس أقلها حجم الدين العام لدى الخزانة الأميركية الآن، والذي حطم كافة الأرقام القياسية لدين أي دولة كبيرة في العالم، منذ أن بدأ تسجيل التاريخ وأخفق في علاج مشكلة الهجرة غير الشرعية. غياب المنافس القوي لقد كانت هزيمة الرئيس أوباما ممكنة. والدليل الأقوى على ذلك هو أرقام التصويت في الولايات المختلفة، والحصر العام للأصوات الشعبية بصفة عامة. إلا أن تلك الهزيمة كانت تتطلب منافسا قويا. ولم يكن الضعف هو خطأ ميت رومني، وإنما كان النتيجة المنطقية لانقسام الحزب الجمهوري وفقدانه لهويته الوسطية، ومن ثم فقدانه لقواعده. ولكن كيف انعكس الانقسام العام في الولاياتالمتحدة على أزمة الحزب الجمهوري التي تعد السبب الأول لفوز أوباما؟. لقد بدا ذلك واضحا في السنوات الأخيرة من أرقام بسيطة تتعلق بالتركيب الديموجرافي للولايات المتحدة. فالولاياتالمتحدة من الجهة السكانية باتت مختلفة في مناح كثيرة عما كانت عليه أيام جورج بوش الأب. لقد ارتفعت نسبة المهاجرين من أصول أميركية لاتينية إلى أرقام غير مسبوقة، وزاد عدد الجالية الآسيوية إلى ثلاثة أضعاف ما كان عليه، كما أن وسائل الاتصال الحديثة أدت إلى تنشيط قاعدة شابة من الناخبين لم تكن تتسم بنفس الحيوية التي نراها الآن في السنوات الماضية. جمود جمهوري وكان يتعين على الحزب الجمهوري أن يطور ليس فقط من وسائله، ولكن أيضا من رسالته بناء على دراسة متأنية لهذا التغيير في التركيب الاجتماعي. ولكن ضغط المتطرفين اليمينيين أرغم الحزب على تبني مواقف بالغة التشدد من الهجرة، مما أدى إلى دفع المهاجرين اللاتينيين إلى أحضان أوباما، ولم يحدث من رسالته إلى الشباب، مما أسفر عن انصرافهم عن الحزب، كما أنه ظل يردد تصريحات تستفز الأصوات النسائية، ولم يطرح أي رؤية لحل مشكلة النفقات الهائلة التي يتطلبها العلاج والرعاية الصحية. وأسفر ذلك بالتالي عن خسارة رومني. .. وتفاعل ديموقراطي وفي المقابل، فإن الحزب الديموقراطي، ولا سيما آلة باراك أوباما الصاعدة بداخله أخذت تتبنى أساليب خلاقة للاتصال ولتطوير رسالتها. وكان ذلك في البداية يثير سخرية التقليديين، الذين لا يرون ان تويتر مثلا ينبغي أن يؤدي إلى تغيير التكتيكات الانتخابية، واعتماد رؤية جديدة لوسائل الاتصال. وفيما يتصل بتطوير رسالة الحزب، فإن أوباما اعتمد أسلوبا يمزج بين إثارة خصوم الأميركيين على رجال الأعمال والموسورين، وبين تقديم حلول خجولة لم تبرهن – حتى الآن – على نجاحها. وبينما كان ينبغي أن يقود ذلك إلى هزيمة الديموقراطيين، فان تطرف الحزب المنافس ساعدهم كثيرا على الترويج لمثل هذا الخط التحريضي. فضلا عن ذلك، فإن لوم الأثرياء كان يقدم لأوباما شماعة جاهزة لتفسير فشله الاقتصادي. فالمشكلة ليست في السياسات التي يتبعها، ولكنها في هؤلاء القوم الذين حققوا قدرا من الثروة عبر عمل متواصل ومهارة متزايدة. إلا أن أوباما لم يكن معنيا بشيء إلا بالفوز. وحتى يتمكن من ذلك، بعد سجل لا يشير إلى تحقيق أي نجاحات تذكر في أي مجال بالمرة، فإن مثل تلك الشماعات تصبح بالغة الفائدة. وفي كل الأحوال فإن أوباما تمكن من أن يوائم نفسه ورسالته وحملته من هذه ال"أميركا" الجديدة الصاعدة، فيما ظل الجمهوريون حزب تلك ال"أميركا" التي كانت. أزمات مفتوحة أما انعكاسات ذلك على الشرق الأوسط فانها صفحة مفتوحة بعد، وإن كان الجميع يعرف مقدماتها من خلال السنوات الأربع الماضية. فقد بدأ الرئيس تلك السنوات بالتأكيد على أن الولاياتالمتحدة لن تتدخل ولن تفرض ولن تحارب ولن تضغط، وهو لم يكن يدري مثلا أن مجرد ترديد ذلك يجرد الولاياتالمتحدة من الحصة الأعظم من نفوذها في العالم. ذلك أن القوة هي "انطباع" في المقام الأول. أي أنها ذلك الانطباع لدى الخصوم بأن الولاياتالمتحدة يمكن أن تتدخل، ويمكن أن تفرض ويمكن أن تحارب ويمكن أن تضغط. إنها ليست في السلاح الذي تحمل فقط، ولكنها في القدرة أيضا على إقناع الخصوم بأنك مستعد لاستخدامه في أي لحظة. وحين يقول قائد الدولة العظمى المتبقية في العالم إنه لن يستخدم ذلك، فإن القوة تتحول إلى تعبير فارغ من أي محتوى. لقد هزم الرئيس نفسه قبل أن يخوض المعركة. ولكن مصالح الولاياتالمتحدة، بل ومصالح العالم تفرض وجود قوة رادعة للنزعات العدوانية بافتراض أن تلك القوة لا تتبنى هي نفسها نزعة عدوانية، ولكنها تتبع سياسة متوازنة تمزج بين الدبلوماسية والتهديد باستخدام القوة، حين تعبث دولة بالقانون الدولي، أو بقواعد الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أو بقرارات الأممالمتحدة التي تحظر استمرار أي احتلال عسكري، وتشريد شعب بأكمله. ومن المحتمل أن يفتح الرئيس أوباما الآن ملف سورية مرة أخرى وفي ضوء جديد يعتمد على إدراك أنه ليس بالإمكان رؤية تلك المعاناة المآساوية اليومية للشعب السوري. كما أن من المحتمل أن يعيد فتح ملف معاناة الشعب الفلسطيني، التي تمثل الجريمة الأكبر في تاريخ الإنسان الحديث. وليس من السهل التكهن الآن بما إذا كان الرئيس أوباما سيواصل خطاه المترددة خلال السنوات الأربع المقبلة على نحو ما فعله في فترة رئاسته الأولى. إلا أن الأيام المقبلة ستكشف عن ذلك.