تؤدي الدراما دوراً مهماً وفعالاً في أي مجتمع، خصوصاً من خلال التلفزيون. فالدراما الحقة تسعى إلى المساهمة في بناء المجتمعات وتشكيل الوعي، وإرساء القيم الأخلاقية والثقافية، فهي بالتالي تعكس الواقع الاجتماعي وقضاياه بأمانة وموضوعية، من دون إسقاطات وغموض وتبني وجهات النظر الشخصية للمؤلف وصناع العمل، وهذا يستوجب تحليهم بالمسؤولية الأخلاقية لضمان تقديم محتوى يثري المجتمع ولا يفسده، والحذر من السقوط في فخ الإثارة الرخيصة والمشاهد المفتعلة الفجة. كما يجب أن تراعي الأعمال الدرامية خصوصية المجتمعات التي توجه لها تلك الأعمال، فلا تروج لما يتعارض مع القيم الأخلاقية والثقافية والدينية والاجتماعية لهذا المجتمع، واحترام نمط حياته وقيمه الأسرية. ومن المهم أن تكون الدراما صادقة في تصوير الواقع، وألا تحاول أن تكون جاذبة ومثيرة لاهتمام المتلقي، فتسعى إلى التوظيف السيئ للقضايا الساخنة كالجريمة والفقر والاضطهاد والتطرف وقضايا المرأة. فالمرأة في معظم هذه الأعمال الدرامية تقدم بصورة نمطية وسطحية ومشينة ومشوهة، بعيداً من المعالجة الموضوعية والرؤية العميقة الحقيقية لإبراز أي إشكالية تحوم حولها. المرأة يجب أن تقدم عبر أدوارها الحقيقية والملهمة في المجتمع، بدلاً من وضعها في قالب الضحية والمستضعفة والمستغلة والعاشقة وسط كبت عاطفي مفتعل وسطوة ذكورية مبالغ فيها، فنحن في حاجة إلى قدوات ملهمة. وهذا لا يعني عدم وجود جوانب سلبية، ولكن يجب أن تناقش في إطارها الحقيقي، من دون الذهاب للتجاوزات والتضخيم غير المبرر. محاذير وخطورة الدراما التلفزيونية أنها تخاطب شريحة كبرى في المجتمع، معظمهم من الشباب والمراهقين والأطفال، فكان لا بد أن تسهم في بناء شخصيات واعية بينهم، وأن تعزز قيماً عالية كالصدق والتعاون والتكافل والتسامح وغيرها، وتؤدي في محصلتها لرسالة إيجابية تسهم في التغير الإيجابي. ما ذكرناه آنفاً لا يعني تقييداً للإبداع والحريات، بل هو توجيه نحو إنتاج أعمال تثري العقول وترتقي بالمجتمعات، فالدراما لم تعد وسيلة للترفيه، بل قوة ناعمة لا يمكن إغفالها، تسهم في تشكيل وعي الأفراد والمجتمع. أخيراً عرض على شاشة إحدى القنوات التلفزيونية مسلسل بعنوان «شارع الأعشى» وهو مأخوذ عن رواية «غراميات شارع الأعشى» للكاتبة بدرية البشر، ولا أدري لماذا جاء مسمى العمل الدرامي منقوصاً من مسماه الغرامي الأصلي، على رغم أن محوره وأهم تفاصيله تدور في فلك غراميات شخصياته الرئيسة؟! لن أدخل في دهاليز النقد الأدبي، ولكنني سآتي على سياق العمل وأفكاره الأساسية وتطوره الزمني والتشريح لشخصياته الرئيسة والتحولات المجتمعية التي أشار إليها العمل الذي ترصد أحداثه الفترة من 1976 حتى بداية الثمانينيات من القرن الماضي. وهذه الفترة تحديداً تسمى «زمن الطفرة الأولى» التي شهدت نهضة تنموية ضخمة، ولكن هذا لا يعني أننا بدأنا مع هذه الطفرة من الصفر، بل كنا نعيش قبلها مراحل تطور كبيرة في كل المجالات، ولكن هذه الطفرة شهدت نقطة الذروة في التحولات المادية. ففرحة الأسرة بالتلفزيون في المسلسل كانت غير مقبولة ومفتعلة، فالتلفزيون دخل الرياض منذ منتصف الستينيات، ولكن البث الملون دخل في ذلك العام. والرياض كانت تعيش منذ منتصف السبعينيات مداً هائلاً في كل المجالات العمرانية ومخططاتها الحديثة والبنية التحتية العملاقة، والتقدم العلمي والمهني، والحراك الثقافي والإعلامي المميز، بل إن كل مظاهر الحداثة العصرية كانت حاضرة في شوارع الرياض وأسواقها. كل هذا والحي الحاضر في المسلسل غائب عن المشهد الحضاري تماماً، لا يتحرك قيد أنملة لمواكبة التحولات العملاقة التي تعج بها كل أركان المدينة. وإن قال قائل «ولكن الأحياء الشعبية كانت بعيدة بعض الشيء عن هذا التغير» نقول: إن هذا التغير الحتمي طال الجميع ولو بتغير نال من نمط حياتهم المادية أو الاجتماعية، بل إن عديداً من سكانه انتقلوا إلى أحياء أخرى، وهذا ما حدث لمن رصد تلك الحقبة. ثم لنذهب إلى «الأعشى»، فلماذا اختيار هذا الاسم بالذات؟ واجتهاداً مني أقول: إن الاسم له تعليلان أحدهما اسم الشاعر (الجاهلي) الأعشى؟ والآخر يذهب إلى المعنى اللغوي الذي يعبر عن الشخص ضعيف البصر الذي لا يرى ليلاً. فهل تريدنا الكاتبة أن نصل إلى حقيقة أن مجتمعها الروائي كان متخبطاً في خطواته، وناقص البصر والبصيرة، محاولاً الوصول إلى التحول الحقيقي الذي يصل به إلى فهم الحياة بواقعها الطبيعي كما تريد الكاتبة؟ ولهذا كان (التمرد) هو المحرك الحقيقي لكل أحداث العمل وشخصياته، التي تتطلع لكسر القيود الاجتماعية والثقافية والدينية، والتي تحول دون حدوث هذا التحول الإيجابي المزعوم؟ فشخصية (عزيزة) المراهقة المولعة بالأفلام المصرية، وتحاول التماهي مع شخصيات بطلاته والتمرد على واقع مجتمعها الذي يحول بينها وبين الانطلاق في سماء أحلامها، ولتأثرها بتلك الثقافة. فهي تقع في غرام طبيبها المصري وتطارده، والغريب أن الطبيب هو من أسدل الستار على تلك العلاقة، معتمداً على بقية لديه من قيم ومبادئ امتلكها وافتقدتها تلك الفتاة اللعوب التي ما فتئت بعد ذلك في التنقل من غرام لآخر حتى نهاية الرواية. لتمتد الروح الثائرة المتمردة إلى أختها (عواطف) التي اتخذت من «السطوح» مرتعاً لغرامياتها مع ابن الجيران، على الرغم من أن سطوح منازل ذلك الزمان كانت ورقة مكشوفة لكل الجيران. ولا تنجو أسرة (وضحى) المرأة البدوية القادمة من مجتمع أكثر محافظة وتمسكاً بالعادات والتقاليد الأصيلة، من إصابة أسرتها بفيروس التمرد عبر ابنتها (مزنة) التي تقع في غرام شاب فلسطيني، تتزوجه والهجرة من دون موافقة أسرتها، وليمثل ابنها (ضاري) النموذج الذكوري للتمرد، الذي طال والدته وإدارة مدرسته ومجتمعه الصغير. وتستمر الرواية في التشريح المجحف ليطال كينونة المجتمع بأكمله، الذي يعيش حالة عامة من التطرف الأسري والاجتماعي والثقافي والديني. في حالة التطرف الديني ارتكزت الكاتبة على «حادثة الحرم الشهيرة» منطلقاً لهذا التطرف بل أشارت إلى مسايرة تلك التوجهات المتطرفة عبر تشديد الرقابة بعد ذلك الحادث. وجميعنا يعرف أننا تجاوزنا تبعات تلك الحادثة سريعاً، وكانت هناك أحداث أخرى مهمة في ما بعد أدت إلى التطرف مثل حرب أفغانستان وظهور «القاعدة» و«داعش» وكل ذلك تجاوزته بلادنا- حفظها الله تعالى- سريعاً، وكان تأثيره وقتياً، ولم يعد له أثر بعد ذلك. في هذا العمل وسم المجتمع بعادات وسلوكيات بغيضة كتسيد النميمة والغيبة والتلصص على أسرار البيوت، بل إن المقهى الشعبي الحاضر بقوة في أحداث المسلسل، ظهر كمقر للغيبة والدسائس والمشاجرات بين أهل الحي، وغابت الحقيقة التي يعلمها الجميع حول شخصية مقاهي تلك الفترة التي اتصفت بكونها مكاناً للألفة وتبادل الأخبار وتفقد أحوال الجيران، ومنطلقاً للمبادرات الاجتماعية الخيرية. لقد حولت الكاتبة مجتمع الحي إلى مادة تجريدية صماء، صالحة لأي تحليل غير منطقي، ولهذا لم يظهر المجتمع في العمل على حقيقته من البساطة والبراءة والفطرة السوية، وعلى طيبة أهله وأصالتهم وتكاتفهم. وجميع من عاشوا تلك الحقبة يعلمون كيف كانت تفاصيل حياتهم السوية، وكيف أن شرف وسمعة أي فتاة في الحي، شرف وعفة للجميع، على الكل الدفاع والذود عنه، وكيف أن معيار الشرف والنخوة والشهامة والأصالة والصفات الحميدة كافة، كانت في حدها الأعلى. فهل يعقل أن عملاً ترجم إلى التركية ثم إلى الإنجليزية ليعود عربياً ثم يظهر برؤية مخرج وكتاب سيناريو أتراك، ثم يأتي من يقنعنا أن هذا هو واقعنا الذي كنا نعيشه! وكأننا كنا نعيش حالة غيبوبة جبرية في وقت غفا فيها زمن أرادوه لنا؟ باختصار هذا العمل لا يشبهنا في شيء، وليس من حق أي كاتب أو صانع للدراما أن ينقل الواقع كما يحب هو أن يكون، وليس كما هو على حقيقته.