في آخر لقاء بينهما قال الرئيس بوش لاسحق شامير رئيس الوزراء الاسرائيلي: "ان هذه الادارة لن تستجيب تلقائياً وبصورة اوتوماتيكية لكل ما تطلبه - او تصر عليه - اسرائيل. ولا نقبل ان يستمر الوضع بيننا كما هو، حيث الولاياتالمتحدة هي التي تقدم الدعم والمساعدات، واسرائيل هي التي تفرض الشروط". كلام بوش المهم هذا نقله الى وزير خارجية دولة اوروبية غربية بارزة مسؤول اسرائيلي كبير وثيق الصلة بشامير. وجاء نقل كلام بوش في نطاق "الشكوى" الاسرائيلية من "الطريقة غير الودية" التي تتعامل بها الادارة الاميركية الحالية مع حكومة شامير. والواقع ان رسالة بوش التحذيرية هذه الى شامير تشكل الأساس الذي تعتمد عليه واشنطن حالياً في تعاطيها مع الحكومة الاسرائيلية، وهو ما جسدته بوضوح قضية "ضمانات القروض". لكن شامير لم يفهم هذه الرسالة التحذيرية، والارجح انه لا يستطيع ان يفهمها بسبب طبيعته المتحجرة كما انه، ولعل هذا هو الأهم، لم يستوعب انعكاسات التغييرات في العالم على موقع اسرائيل في الساحة الدولية، خصوصاً في الساحة الاميركية نفسها. وهكذا تحولت قضية "ضمانات القروض" الى معركة سياسية حقيقية بين ادارة بوش وحكومة شامير، ولم يعد خافياً على الكثيرين ان بوش يريد، فعلاً، هزيمة شامير وتكتل الليكود في الانتخابات النيابية في حزيران يونيو المقبل ويتمنى فوز اسحق رابين وحزب العمل، ولو بفارق مقعد نيابي واحد، على امل ان يؤدي ذلك الى تأليف حكومة برئاسته والى تحقيق تقدم في مفاوضات السلام العربية - الفلسطينية - الاسرائيلية. ومن هذا المنطلق خالف بوش ووزير خارجيته جيمس بيكر القاعدة المعتمدة منذ سنوات طويلة في اطار العلاقات الاميركية - الاسرائيلية، وهي ان رئيس الولاياتالمتحدة لا يخوض معركة سياسية مع اسرائيل في سنة انتخابات الرئاسة. وقد شذ عن هذه القاعدة، في السابق، الرئيس ايزنهاور حين ضغط على اسرائيل عام 1956 لكي تسحب قواتها من مصر اثر العدوان الثلاثي. ودخل بيكر - بدعم علني من بوش - في مواجهة مع حكومة شامير حين اعلن في شهادتين امام لجنتين فرعيتين في الكونغرس نهاية الشهر الماضي، ان الادارة الاميركية لن توافق على ضمانات للقروض بقيمة 10 مليارات بلايين دولار الى اسرائيل - "اضافة الى المساعدات الاميركية السنوية لتل ابيب والتي تراوح بين 3 و4 مليارات دولار" - بشكل "يتعارض مع السياسة الاميركية" ازاء النزاع العربي - الاسرائيلي. ولذلك وضع بيكر شامير امام خيارين: اما ان توقف الحكومة الاسرائيلية النشاط الاستيطاني في الاراضي العربية المحتلة، بما في ذلك اقامة البنية الاساسية، في مقابل ضمانات قروض قيمتها عشرة مليارات دولار على مدى خمس سنوات، على اساس ان الولاياتالمتحدة تعارض سياسة الاستيطان منذ عام 1967. واما ان تكمل اسرائيل المنازل التي كانت قيد الانشاء اعتباراً من اول كانون الثاني يناير 1992، لكن تقبل قدراً اقل من المال كل سنة على حدة، وعلى اساس تخفيض دولار مقابل كل دولار تنفقه على المستوطنات. ووفقاً لما اكده ديبلوماسي اميركي بارز لپ"الوسط" فان ادارة بوش قدمت الى شامير عرضاً "تدرك تماماً انه سيرفضه" - وهذا ما حدث بالفعل - اذ ان هذه الادارة لا تريد منح ضمانات القروض هذه للحكومة الاسرائيلية الحالية بل لحكومة يترأسها اسحق رابين، او لحكومة جديدة تتألف بعد الانتخابات النيابية المقبلة. ولم يخطئ بوش في حساباته الاميركية حين خاض هذه المعركة ضد اسرائيل ودعم موقف بيكر علناً، كما انه لم يقدم على "عمل انتحاري" سيؤدي به الى الهزيمة في انتخابات الرئاسة، بل ان هذه هي المرة الاولى منذ سنوات طويلة التي يبدو فيها ان خوض معركة ضد اسرائيل "مفيد" انتخابياً ويمكن ان يؤدي الى دعم موقف بوش الانتخابي. وهناك عدة عوامل لذلك: 1 - الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعاني منه الولاياتالمتحدة هو "نقطة الضعف" الحقيقية في معركة بوش الانتخابية. وهذا الوضع الاقتصادي الصعب ادى الى بروز تيار قوي، لدى الرأي العام الاميركي وداخل الكونغرس نفسه، يدعو الى تقليص المساعدات الاميركية الخارجية وتحويل جزء كبير من اموال هذه المساعدات لتحسين الوضع الاقتصادي الاميركي. وقد اظهر استفتاء للرأي العام الاميركي اجرته صحيفة "وول ستريت جورنال" وشبكة تلفزيون "ان. بي. سي"، ان 73 في المئة من الاميركيين يؤيدون موقف بوش الرافض تقديم ضمانات القروض لاسرائيل اذا لم تجمد حكومة شامير بناء المستوطنات في الاراضي المحتلة. 2 - بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وزوال "الخطر الشيوعي"، واثر "التقارب الوثيق" الذي شهدته العلاقات العربية - الاميركية عموماً خلال ازمة الخليج وبعدها، فقدت اسرائيل الكثير من "قيمتها الاستراتيجية" بالنسبة الى الحسابات الاميركية في الشرق الاوسط. وهذا ما ادركه عدد من زعماء الكونغرس المعارضين لبوش عموماً، فاذا بهم يؤيدونه في معركة "ضمانات القروض" هذه. 3 - المنافس الرئيسي لبوش في صفوف الحزب الجمهوري هو باتريك بوكانان. وبوكانان "اشد عداء" لاسرائيل من بوش اذ يدعو الى خفض المساعدات الاميركية لتل ابيب ويعتبر ان الكونغرس الاميركي "ارض تحتلها اسرائيل". 4 - اليهود الاميركيون منقسمون على انفسهم بشأن هذه القضية، وهم ليسوا كتلة واحدة مع اسرائيل كما كان الحال في الماضي. بل ان قسماً بارزاً من اليهود الاميركيين يعتبر ان على شامير القبول بعرض بوش وتجميد بناء المستوطنات في مقابل ضمانات القروض، وان "من الخطأ" تجاهل مشاعر الاميركيين حيال موضوع المساعدات الخارجية، في وقت تعاني الولاياتالمتحدة من اعمق ازمة اقتصادية واجتماعية منذ سنوات طويلة. بوش، اذن، لا يسبح عكس التيار. ودليل آخر على ذلك ان "الحل الوسط" الذي يسعى اليه بعض اصدقاء اسرائيل التقليديين في الكونغرس يقضي بأن يقر الكونغرس ضمانات القروض هذه منذ الآن، لكن يسمح لبوش بعدم الافراج عن الاموال الى ان تستجيب اسرائيل لمطلب تجميد المستوطنات. هل يستفيد اسحق رابين - وهو الذي يؤيد تجميد بناء المستوطنات في الاراضي المحتلة ما عدا في القدسالشرقية، كما يؤيد التوصل الى اتفاق سريع للحكم الذاتي مع الفلسطينيين - هل يستفيد من معركة بوش وشامير هذه؟ المصادر الغربية المطلعة على الوضع الاسرائيلي تؤكد ان "المهاجرين الجدد" هم الذين سيرجحون كفة احد الاثنين، شامير او رابين، في الانتخابات المقبلة. فهناك 501 الف مهاجر جديد يحق لهم التصويت، وتجري حالياً مفاوضات سرية بين ممثلين عنهم وكلا الطرفين، الليكود والعمل، "لمقايضة" اصوات الناخبين. ويأمل الاميركيون ان يصوت عدد كبير منهم الى جانب رابين، من منطلق ان وصول رابين الى الحكم سيفرج عن ضمانات القروض لتوطين هؤلاء المهاجرين، ومن منطلق ان واحداً في المئة فقط من المهاجرين مهتم بمستقبل الاراضي العربية المحتلة ويرغب الاقامة فيها. مرونة فلسطينية مع الاسرائيليين في مقابل هذا التشدد الاسرائيلي، يتعامل الفلسطينيون بمرونة قصوى - لا في تصريحاتهم العلنية بل في مواقفهم الفعلية - مع المفاوض الاسرائيلي، ويتقبلون معظم، ان لم نقل كل، النصائح التي يقدمها لهم جيمس بيكر او معاونوه. وأبرز مثال على ذلك ما جرى في الجولة الرابعة من المفاوضات العربية - الاسرائيلية التي عقدت في واشنطن في نهاية شباط فبراير الماضي ومطلع الشهر الجاري، حين طرح الوفد الاسرائيلي "تصوراته" للحكم الذاتي الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة. ولا بد من التوقف عند هذه القضية لأنها تشكل مفترقاً مهماً في مسار مفاوضات السلام. ففي بداية الجولة الرابعة للمفاوضات قدم رئيس الوفد الاسرائيلي الياكيم الى رئيس الوفد الفلسطيني حيدر عبدالشافي مذكرة تقع في 10 صفحات وتتضمن التصورات الاسرائيلية "لترتيبات الحكم الذاتي خلال الفترة الانتقالية" في الضفة الغربية وغزة. وهذه التصورات هي رد على مشروع الحكم الذاتي الذي قدمه الفلسطينيون في الجولة الثالثة من المفاوضات ويحمل اسم "مسودة نموذج سلطة حكم الذات الانتقالية الفلسطينية". وقد اقدم الاسرائيليون على تقديم تصوراتهم هذه بناء على الحاح الادارة الاميركية. وعلى رغم ان هذه هي المرة الاولى في تاريخ النزاع العربي - الاسرائيلي التي يقدم الفلسطينيون والاسرائيليون اقتراحات خطية لحكم ذاتي في الاراضي المحتلة، الا ان الفوارق بين المشروعين كبيرة للغاية. فالمشروع الفلسطيني يشكل، في الواقع، "نواة" لدولة فلسطينية، وخطوة نحو مفاوضات لإيجاد "وضع نهائي للأرض الفلسطينية المحتلة" اذ انه يدعو الى انسحاب القوات الاسرائيلية - خلال المرحلة الانتقالية - من جميع المناطق الآهلة بالسكان، ويقترح ان تتكون "سلطة حكم الذات الانتقالية الفلسطينية" من 3 هيئات رئيسية هي: المجلس التشريعي المؤلف من 180 نائباً والمجلس التنفيذي المؤلف من 20 عضواً ومجلس القضاء. كما يدعو المشروع الفلسطيني الى اجراء انتخابات نيابية في الاراضي المحتلة "باشراف هيئة دولية"، ويقترح مجموعة اجراءات لضبط الامن في هذه الاراضي. المشروع الاسرائيلي، في المقابل، وقد حصلت "الوسط" على نصه الكامل باللغة الانكليزية ينطلق من اعتبار المشروع الفلسطيني مقدمة لإنشاء دولة فلسطينية، وهو ما ترفضه اسرائيل بشكل قاطع "لأنها تشكل تهديداً قاتلاً لأمنها". ويشكل المشروع الاسرائيلي تراجعاً واضحاً عن مفهوم الحكم الذاتي كما ورد في اتفاقات كامب دايفيد، وتراجعاً عن خطة شامير نفسه التي طرحها في ايار مايو 1988: فالمشروع الاسرائيلي الجديد لا ينص على اجراء انتخابات لاختيار هيئة الحكم الذاتي الفلسطيني، ولا ينص على انسحاب القوات الاسرائيلية من بعض المناطق، ولا ينص على انشاء قوة بوليس محلية فلسطينية لضبط الامن. ويقول الاسرائيليون - في محاولة "تبرير" تراجعهم هذا امام الاميركيين - انه بعد توقيع اتفاقات كامب دايفيد كان هناك 10 آلاف مستوطن اسرائيلي في الضفة وغزة، اما اليوم فهناك 110 آلاف مستوطن، كما ان الانتفاضة تدفعهم الى رفض الانسحاب وانشاء قوة بوليس فلسطينية. اضافة الى ذلك، يمنح المشروع الاسرائيلي الفلسطينيين صلاحيات "ادارية - وظيفية" محدودة، ويدعو الى بقاء المستوطنين في الضفة وغزة تحت السلطة الاسرائيلية، والى ايجاد "تعاون وتنسيق" بين السلطات الاسرائيلية و"الاجهزة الادارية" الفلسطينية، كما ينص على ابقاء الصلات قائمة بين اسرائيل والضفة وغزة، ويؤكد ان "المسؤولية الوحيدة عن الامن بكل اوجهه - الخارجية والداخلية والامن العام - ستكون مسؤولية اسرائيل". وينص المشروع، ايضاً، على ان القدس "عاصمة اسرائيل" وليست جزءاً من الضفة وغزة. بالطبع، رفض الوفد الفلسطيني المشروع الاسرائيلي "شكلاً ومضموناً" لأنه يسعى الى اقامة "نظام عنصري" في الضفة وغزة، ولأنه يعطي طابعاً شرعياً للاحتلال ويمهد لضم هذه الاراضي لإسرائيل، ولأنه، ايضاً يشكل انتهاكاً للقرارات الدولية المختلفة ويتعارض مع التزامات اسرائيل في اتفاقات كامب دايفيد. وقد وردت هذه الامور كلها في مذكرة تقع في 3 صفحات بعث بها رئيس الوفد الفلسطيني عبدالشافي الى رئيس الوفد الاسرائيلي روبنشتاين. لكن رئيس الوفد الفلسطيني لم يكتف بالرفض بل تعامل "بمرونة كبيرة" مع المشروع الاسرائيلي، وذلك بناء على طلب بيكر. ففي مذكرته هذه قال عبدالشافي انه يعتبر ان المشروع الاسرائيلي يعكس "وجهة النظر الشخصية فقط" لروبنشتاين وليس وجهة نظر حكومة شامير، ودعا الحكومة الاسرائيلية الى تقديم "مشروع رسمي" يتعلق بترتيبات الحكم الذاتي الفلسطيني، معلناً استعداد الفلسطينيين لمناقشة مثل هذا المشروع. وقال عبدالشافي في مذكرته هذه "على رغم خلافاتنا فيجب ان نجد طرقاً للتحرك الى الامام والتوصل الى سلام دائم وعادل". لكن الكرة الآن ليست في الملعب الاسرائيلي بل في الملعب الاميركي. فحكومة شامير لن تقدم اي مشروع جديد للحكم الذاتي، خصوصاً قبل الانتخابات. اما بيكر فقد وعد، رسمياً، الفلسطينيين والوفود العربية "بالتدخل" في المفاوضات حين تتم مناقشة "امور جوهرية". وقد قال بيكر بالحرف الواحد لرئيس وفد عربي: "سنستخدم نفوذنا في المسائل والقضايا الجوهرية الكبرى ولا نريد ان نقحم انفسنا لتسوية مسائل اجرائية صغرى… لقد اتخذنا مواقف خلال سير المفاوضات لم تتخذها اية ادارة اميركية من قبل. ولا تعتقدوا ان دخولنا سنة الانتخابات سيقلل من عزيمتنا وتصميمنا على تحقيق السلام في الشرق الاوسط". ووفقاً لما اكدته لپ"الوسط" مصادر اميركية رسمية ورفيعة المستوى فان بيكر ومعاونيه ينوون في الاسابيع المقبلة طرح مجموعة "اقتراحات واراء" تتعلق بالحكم الذاتي الفلسطيني ومناقشتها مع الفلسطينيين والاسرائيليين لتقريب وجهات النظر والتوصل الى صيغة موحدة مقبولة، خصوصاً انهم يعتبرون ان المشروع الاسرائيلي "غير مقبول تماماً". لكن الامر الجديد والملفت للانتباه هو وجود نوع من "التفاهم الضمني" الاميركي - الفلسطيني في مواجهة شامير، الرجل الذي فقد بوش وبيكر الامل في عقد اية صفقة سياسية معه لتحقيق السلام في المنطقة.