كثر الحديث في الآونة الاخيرة عن قضية الاصلاح الداخلي للنظم العربية في ظل ظروف استثنلئية في اوضاع دولية واقليمية غير مستقرة, بل وغير مسبوقة كما تحمل من الاحتمالات وتنطوي على توقعات لا يمكن التكهن بها أو الفصل فيها. فنحن نمر بحال فوضى حقيقية في العلاقات الدولية وعودة الى عصر الهيمنة وسطوة القوى المنفردة التي تسعى الى اعادة ترتيب الاوضاع في عالم اليوم. وهي مرحلة تاريخية كنا نظن أننا تجاوزناها منذ سنوات طويلة وتصورنا ان العالم يدخل مرحلة من ديموقراطية العلاقات الدولية والتوازن في المصالح بين الكبار والصغار، بين الشمال والجنوب بين الشرق والغرب. ولكن نظرة للمسرح الدولي توحي بغير ذلك تماماً، فالصراع محتدم والصدام محقق والازمات طاحنة، وفي غمار ذلك كله يتردد حديث طويل حول اهمية الاصلاح السياسي والاقتصادي، بل والثقافي والاجتماعي في دول الشرق الاوسط. ومردُّ ذلك كله هو الربط التحكمي بين الظاهرة الارهابية وبين بعض النظم في الدول العربية والاسلامية، وقد لا تكون العلاقة سببية ولكنها قد تكون ارتباطية، بمعنى أن قصور النظم ليس سبباً لتنامي موجات الارهاب، ولكنه يتلازم معه ويرتبط به فكلاهما نتاج للقهر والفقر والتخلف. ويبقى السؤال المطروح وهو: هل تعتبر استجابة الدول العربية للافكار الاصلاحية - بغض النظر عن مصادرها ونياتها واهدافها - امراً يحتاج الى مراجعة؟ فالبعض يرى، وأنا منهم، ان الاصلاح مطلب عام في كل العصور الزمنية والمناطق الجغرافية وليس مطلباً خاصاً بالشرق الاوسط الآن من دون غيره، كما أن آلاف الأصوات نادت عبر السنوات الماضية بضرورة الاصلاح والمضي في كل السياسات المؤدية اليه والبرامج الساعية نحوه. لذلك فإن هذا البعض يرى أنه ليس في حاجة الى استيراد توجهات جديدة، بل المطلوب فقط هو تطبيق الافكار المطروحة وفتح الملفات المؤجلة واعادة ترتيب الاولويات بصورة تسمح بالحديث عن الارادة الذاتية في التغيير لا مجرد التعليمات الصادرة من قوى خارجية في ظل هذه الظروف غير الطبيعية وفي إطار رؤية مختلفة لمستقبل المنطقة العربية، بل والدول الاسلامية ايضاً، وهنا نجد انفسنا أمام عدد من الامور التي يجب التعرض لها ما دمنا نتحدث عن اصلاح النظم في تلك الدول. الأمر الأول: إن الاصلاح الشامل قد يقتضي في مراحل معينة تغيير بعض القيادات، ولكن القضية في النهاية لا تقف عند هذا الحد، فالمهم هو تغير السياسات وتطور الاساليب وشفافية الخطط ووضوح البرامج. كما اننا نعترف أن تغيير الجياد التي تجر العربة يحسن ان يتم بطريقة شرعية وفي ظل ظروف طبيعية، والمسألة في جوهرها ليست عملية استبدال للشخوص فقط ولكنها تغيير في المناهج وطرائق التفكير وعناصر المواجهة. ويهمني في هذه النقطة بالذات أن اشير الى اهمية الاطار النظري الذي تعتمد عليه بعض النظم وتكتسب منه مشروعية وجودها، لذلك فإن الاصلاح الدستوري يمثل مدخلاً تقوم عليه دعائم الشرعية وتستند إليه فلسفة الحكم. الأمر الثاني: إن المؤسسات السياسية والاقتصادية لا تنهض وحدها لكي تكون تعبيراً عن نقلة حقيقية في ذلك المجال، ولكن العبرة تأتي من توافر المناخ العام الذي يساعد على ذلك ويؤدي اليه. فالفكر الفلسفي يجب ان يسبق البناء المؤسسي، وما أكثر الدول العربية التي اقامت المجالس واعلنت ميلاد المؤسسات من دون أن يتغير المناخ العام، فكانت النتيجة صفراً وكان الحصاد هشيماً. لذلك فإن وجود رأي عام قوي يعتمد بالدرجة الاولى على الطبقة المتوسطة ما زال يبدو من أساسيات الاصلاح، لانه يشكل في النهاية ضمير الشعب ووجدان الأمة. الامر الثالث: إن الثقافة والتعليم والإعلام تلعب في مجموعها أدواراً مؤثرة في تكوين عقلية المجتمع وتشكيل رؤيته وتحديد درجة نضوجه وهي عوامل حاكمة في عملية الاصلاح، والذين يتصورون ان الثقافة عنصر تكميلي إنما يسلبون من الشعوب هويتها وجوهر وجودها، والذين لا يدركون أن التعليم هو بوابة العصر وهو الذي يمثل اوراق الاعتماد المطلوبة في عالم اليوم إنما لا يدركون ان تحديث التعليم يعني بالضرورة تحديث العقل وصحوة الفكر، فالتعليم يبدو مثل الحجز عند المنبع في النظام الضريبي لانه قضية القضايا ومفتاح كل الابواب المغلقة، فضلاً عن تأثيره في عنصري الثقافة والبحث العلمي في آن واحد، بل إن أدق تعريف للتكنولوجيا الحديثة هو أنها عملية توظيف ناجحة للعلم في خدمة الصناعة. أما الإعلام فهو ذلك الغول الكاسح الذي يغير الرؤوس ويرتب الاولويات ويجدول العقول، ونحن نشكو في المنطقة العربية من ازدواجية الإعلام وغيبة الصدقية احياناً وافتقاد الشفافية احياناً اخرى ولكنها امور تستوجب نظرة تأمل ووقفة مراجعة، لذلك لا يبدو غريباً أن الحديث عن اصلاح النظم العربية يأتي مرتبطاً بقضايا الثقافة والتعليم والإعلام لأنها هي التي تمثل القنوات الطبيعية لاستقبال المبادئ الروحية والمعتقدات الدينية، فإذا كان الاسلام يبدو لمن لا يفهمونه جيداً وكأنه خطر داهم عليهم فإن العوامل الثلاثة السابقة الحاكمة هي التي تستطيع ان تقدم الصورة الصحيحة له بالتفاعل مع دور المؤسسة الدينية بتأثيرها الروحي الكاسح ومسؤوليتها في الدعوة ومحاربة الغلو والتطرف فضلاً عن التعصب والتشدد. الامر الرابع: إن الاساليب العصرية في ادارة الدولة الحديثة لم تعد كيمياء معقدة أو رموزاً غامضة ولكنها ارادة سياسية واعية، فالرشد يبدأ من الرأس وينتهي منها ايضا، والعبرة دائماً بمدى الرغبة وتوافر الارادة والاحساس العميق بأهمية ما نريد. ويكفي ان نتذكر هنا ان الدول الافريقية الصغيرة في شرق القارة وغربها حزمت امرها واتخذت قرارها لتحقيق ديموقراطية ناجحة ادت الى تداول السلطة ودوران النخبة، فأين نحن في الوطن العربي من ذلك الانجاز؟ نعم إنني لا انكر ان هناك من يسعى، وان البعض حاول، وأن عدداً من الدول العربية قطع اشواطاً ناجحة نحو عصرنة الدولة وحداثة الادارة والارتقاء بمستوى الانسان العربي فيها ولكن ما زال امامها مسافات طويلة لتصل الى المشاركة السياسية الحقيقية والديموقراطية الصحيحة التي تتجسد في ما نطلق عليه "دولة القانون" STATE OF LAW فمعايير التقدم الحقيقية لم تعد هي فقط القوة العسكرية أو التقدم الاقتصادي او التفوق التكنولوجي وحدها ولكنها اصبحت ايضاً تتجسد في حجم تمثيل القوى السياسية الموجودة فعلاً في الشارع الوطني، فضلاً عن مساحة الحريات المتاحة والمناخ العام الذي يضمن الاستمرار ويؤدي الى انفتاح المجتمع على قضايا العصر وفي مقدمها الديموقراطية وحقوق الانسان والاقليات وشؤون البيئة. الامر الخامس: إن الارتباط بين اصلاح النظم والتسوية السلمية للصراع العربي- الاسرائيلي هو معضلة اخرى إذ أن كليهما يمثل طرفاً في معادلة معقدة، فلقد عطلنا - نحن العرب - مسيرة الديموقراطية وبرامج التنمية وسياسات التطوير في كل نواحي الحياة انتظاراً للوصول الى لحظة سلام لم تتم، وقد لا تكون قريبة المنال ايضا وكان ذلك واحداً من اسباب قصور العرب عن تحقيق تفوق استراتيجي فضلاً عن مجرد تحقيق التوازن في ذلك السياق أمام الدولة العبرية، فكأننا عطلنا الوسيلة انتظاراً للغاية وسمحنا بالحلقة الشريرة في العلاقة بين اطراف الصراع في الشرق الاوسط لكي تكون على حسابنا مع مضي الوقت وليست في مصلحتنا وفقاً لعنصر الزمن، ولذلك فإننا يجب أن نعترف أننا فشلنا ولو نسبياً في ادارة الصراع لأسباب يقع في مقدمها أننا لم نحسم امرنا على طريق التقدم الصحيح والتنمية الشاملة والديموقراطية الحقيقية. هذه أمور رأيت ان لها تأثيراً ضاغطاً في ما يتعلق بمسألة اصلاح النظم العربية، بل إن بعضها يبدو بمثابة شروط ضرورية لتحقيق ذلك الاصلاح. اقول ذلك كله بمناسبة المبادرة التي اطلقها "كولين باول" وزير الخارجية الاميركي في "جمعية التراث" بالولايات المتحدة، وهي بالمناسبة لا تعتبر جمعية صديقة للقضية العربية، بل هي يمينية التوجه اقرب الى الطرف الآخر منها إلى العرب، ومع ذلك فإنني أرى ان رفض مثل هذه المبادرة يعني الجمود والاستسلام للواقع وقبول الاتهام الموجه إلينا ظلماً والذي يرمينا فيه البعض بالتخلف والتعصب في آن واحد. ولكننا ايضاً لا نحتاج في الوقت ذاته الى وصاية قوة كبرى تسوقنا نحو الاصلاح وتعلمنا اهميته وضرورته، فنحن نرى أن الامر يجب ان ينطلق ذاتياً وان يتواصل بغير حدود لان ذلك هو طريق الامل الذي يقوم على تجديد الفكر وصحوة العقل وإحياء الهوية واحترام روح العصر والتعايش مع عالم مختلف لا نقبل كل ما جاء به ولكننا لا نستطيع ان نرفض ايضاً كل ما فيه. تلك رؤية للارتباط بين الاصلاح والتسوية في إطار النزاع المستمر والصراع القائم، بل وفي ظل الامل المفقود والرؤية الغائبة. كاتب قومي، عضو البرلمان المصري.