يثير الجدال حول علاقة الدين بالديموقراطية العديد من التساؤلات والإشكاليات، وخصوصاً في العالم العربي والإسلامي، ويمتد ليطاول العلاقة ما بين المجال الديني والمجال السياسي في عصرنا الراهن، حيث تشكل الديموقراطية استحقاقاً مباشراً وكبيراً في البلدان العربية، يقتضي إعادة تعريف دور الدين ووظيفته الاجتماعية والثقافية والسياسية، والاستناد إلى مقتضيات عملية التطور التاريخي لمكونات المنظومة العقائدية، التي تمس جملة المفاهيم الأساسية المتعلقة بالعلاقة مع الآخر والتعددية والتسامح والحرية وسواها من المفاهيم. ولا شك في أن الانتقال نحو النظام الديموقراطي، يستلزم عملية إعادة إنتاج للمفاهيم الدينية، خصوصاً وأننا نشهد تحولاً كبيراً في العلاقات بين الأديان والسياسة. وفي هذا السياق يقدم"مارسيل غوشيه"في كتابه"الدين في الديموقراطية"ترجمة شفيق حسن، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2008 تحليلاً واسعاً للعلاقة ما بين الشأن الديني والشأن السياسي، استناداً إلى تاريخ الأفكار أو تاريخ اللاهوتيات، الذي يربطه - أوروبياً - بتاريخ الممارسات والسلوكيات الاجتماعية، وبالصراع ما بين مبادرات السلطات السياسية ومبادرات السلطات الدينية، وما عرفه المجالين الديني والسياسي من ترابط، كانت فيه القوى والموازين متقلبة في عهود عديدة. ويسوق ذلك كله دعماً للفرضية التي تفيد بأن بروز الديني في الغرب حدث بالانفصال أو خارج الإطار الديني، حيث برز في القرون الوسطى الأوروبية مدى سمح باستقلال المجال السياسي، ونهض على أساس التمييز ما بين عالم الدنيا وعالم الآخرة، خارج نطاق الدين. وعليه يلاحظ المترجم أن الإطار السياسي في الغرب تركز خارج حدود الإطار الديني عندما رأى رجال الدين أنفسهم - مجبرين - على إعادة النظر بمواقعهم بالنسبة للعبة السياسية غير المستقرة وبأدوارهم التي تؤسس هويتهم الخاصة طبقاً لسلطة منحهم إياها الله. وانطبعت الكنيسة تدريجاً بسمتين أساسيتين، هما التخصص الوظيفي والبنية التراتبية في مجتمع يسوده الأباطرة ويحكمه المطارنة، قبل أن تتكون في أوروبا الدول- الأمم ذات التوجه العلماني. ثم تكوّن لكل من البناء السياسي والبناء الديني مداه الخاص، حيث كان كل بناء منهما يتحدد بالآخر إلى أن فرض استقلاليته عنه، فانبثقت ثنائية السلطة: سلطة زمنية وسلطة روحية. ويرى مارسيل غوشيه أن فصل الكنيسة عن الدولة، أو فصل الدين عن السياسة، قدم دافعاً لتعظيم السياسة، فيما أججت المواجهة مع فريق الانصياع إلى المقدس معركة الحرية، وأدّت إلى فهم مُتسام للنظام الذي يمكن البشر أنفسهم من وضع قوانينهم الخاصة بهم. إن هذا التغير في السيادة التي تمتد جذوره إلى الماضي السحيق، هو الذي يكون - بلا شك - الأصالة الأساسية لبلد مثل فرنسا على المدى البعيد، لأن هذا التغير هو الذي جعل منه المختبر الأساسي للابتكار الديموقراطي. ويطالب بقياس ما يدين به المجتمع الفرنسي من تنافر ما بين التشبث بالدين وبين التوق إلى العلمنة بغية التمكن، عبر دراسة التناقض بينهما، من تقويم ما يصيب تقاليد المجتمع الفرنسي من تزعزع منذ ربع قرن، معتبراً أن ما تغير في البداية ليس الجمهورية، بل نقيضها، هذا الذي كان عليها أن تحدد نفسها ضّده. وفي لحظة تقع ربما حوالى عام 1970 أو بعده بقليل، نجا المجتمع الفرنسي، من دون أن يعي ذلك من قوة الجذب التي كانت ما زالت تشدّه إلى الفلك الرباني، حتى من بعيد. فلم يعد بمقدور أحد البتة، باعتباره مواطناً فرنسياً، أن يتصور نفسه مسيراً من قبل العالم الآخر. ثم حدث تحول خفي، غيّر جذرياً العلاقات ما بين من كان يؤمن بالسماء وبين من لم يكن يؤمن بها، ومع هذا التوزيع الناظم ذهب مفهوم الدولة بكامله مع من يجد نفسه مأخوذاً بهذا التيار، ووجد الصرح المدني أن قواعده بدأت تتفكك. وما نشاهده اليوم من خلال التحول وما وراء التحول في العلاقة بين الدولة والدين، وبين الجمهورية والديانات، هو تحول يصيب الديموقراطية برمتها. إن دولة الإنسان هي من صنع الإنسان، إلى درجة أصبحنا، باختصار شديد، ديموقراطيين مفرطين في التجريد. ويعتبر غوشيه أن العلمنة في فرنسا تعود إلى زمن بعيد جداً، ولا يمكن فهم مسيرتها ورهاناتها وأشكالها، فهماً واقعياً إلا عندما نعيد إليها عمقها التاريخي، حيث ارتبط تاريخ العلمنة ارتباطاً حميماً بتاريخ الدولة، بوصفها أحد المحركين الرئيسيين لمسار الخروج من الدين. لكن البحث الذي يجريه في مسألة العلمنة يفضي إلى تحليل التحول الاجتماعي والسياسي الذي حصل أخيراً في معظم المجتمعات الأوروبية، وخاصة فرنسا، حيث يلاحظ أن مسألة الخروج من الدين لا تعني التخلي عن المعتقد الديني، وإنما الخروج من عالم يكون فيه الدين ذاته منظماً بنيوياً، يوجه الشكل السياسي للمجتمعات، ويعين البنية الاقتصادية للرباط الاجتماعي. ويخلص إلى القول بأن الخروج من الدين هو تحويل العنصر الديني القديم إلى عنصر آخر غير الدين، ولهذا السبب يطعن في مختلف أنواع"العلمنة"و"الدنيوة". لكن المدهش في عصرنا الراهن هو تواجد الخروج من الدين مع العودة إلى اكتشافه، مع أن المسألة لا تكمن في معرفة ما إذا كان الانفجار الداخلي الصامت يتعلق فقط بالنظريات اللاهوتية في التاريخ والأنظمة التي تدعمها. أما الفكر الديموقراطي، فقد كان لاكتشاف نفسه وتأكيد نفسه في مجتمعات مفعمة بالإيمان أثار بالغة في فهم غايته وأساليبه. وهنا تأتي مسألة العلمانية، ليطرح غوشيه تساؤله عن الكيفية التي يندرج وفقها ديموقراطيين من رجال متدينين مع محاربة صيغة الإيمان المصحوب بسياسة تابعة للخارج. لكن ما يدفع مسألة العلمنة إلى الصدارة هو الصدام بين الإضعاف المتواصل للعامل الديني وموجة اجتماعية - تاريخية ذات توجه معاكس، وهي الفوران الأصولي والسياسي الذي يجري في البلدان الإسلامية. ويؤكد غوشيه أن"العودة إلى العامل الديني"تشبه أي شيء آخر غير العودة إلى الدين، كونها تنتج عن تكثيف الإيمان مع الظروف المعاصرة للحياة الاجتماعية والفردية أكثر مما تأتي من التنظيم الديني لحياة الإنسان. ويعتبر غوشيه أن الدولة من خلال تمثيلها المجتمع المدني، مدعوة في الواقع إلى القيام بدور المؤسس للهويات التي يتألف منها هذا المجتمع. فمن خلال العلاقة معه تُصنع هذه الهويات، فالدولة لا تقيم شرعيتها إلا من خلال سعيها المتواصل للمشاركة في خلق مكونات المجتمع المدني. ومقابل هذه المكونات التي ترغب في أن تكون بؤراً للهويات، لا تتمكن من الانتشار في شكل فاعل كهويات إلا من خلال مساحة التمثيل بالمعنى العام والمجرد الذي يتجسد بنشاطات ملموسة جداً. غير أن الهويات تصوّر نفسها بصور شتى، لكنها لا يمكن أن توجد في البدء، ثم تلجأ في ما بعد إلى جعل نفسها مقبولة من مجموعة الهويات الأخرى ومن طرف المجتمع العام. إنها تكون نفسها في وجودها المتمايز، وتؤكد نفسها في تمايزها النوعي، وذلك نسبةً إلى المجال العام، ووفقاً للاعتراف الذي تريد أن تلقاه داخله. أي أنها في حاجة إلى كيان الدولة التي تريد أن تتموضع خارجها والتي تريد منها أن تعترف بخارجيتها من أجل أن تحدد ماهيتها وتطمئن على ذاتها. والحاصل هو أنها لا توجد إلا في إطار من التمثيل. لا شك في أن غوشيه يتناول في هذا الكتاب المنعطف الذي بلغت فيه العلمانية في البلدان الأوروبية، حيث وصلت إلى مرحلة جديدة تحتاج إلى تحليل عميق. ويرتكز تحليله إلى معرفة دوافع القلق الذي تنتجه العلمانية في مجتمع يطالب بها، وكذلك لمعرفة الصيغ والمصاعب الجديدة التي تواجهها الديموقراطية في مرحلة بروز الديني وخلخلة فكرة السياسة التي قامت وتطورت، ويمتد الأمر إلى القيام بنوع من إعادة تعريف السياسة والديموقراطية وسواهما من المفاهيم. * كاتب سوري