في الغربة تحيط بك الأفكار ويلفك السكون والهدوء وتجد أنك تعيش ولأول مرة بعيداً عن الوطن. هذه الكلمة التي كنت تسمعها كثيراً ولكن لم تدرك معناها الحقيقي إلا في هذه اللحظة. في زمن الغربة تتوقف الكلمات في فمك، في الغربة تفقد الأمان والحب لأنك بعيد عن الوطن، وفي الغربة تشعر بقيمة الوطن وبحنانه، ويغتالك الانتظار، تشعر أنك فقدت هويتك، الشوارع والمتاجر كل شيء حولك من مظاهر صاخبة لم تنسك حب هذا الوطن. الوطن الذي تربيت فيه ومن خلاله وجدت نفسك إنساناً يشعر بعطاء هذا الوطن، الوطن الذي ركضت فيه طفلا، واحتضنك بالحب والحنان حتى أصبحت رجلاً، الوطن الذي سقاك براحتيه شراب الأمل والسعادة. بعيداً عن الوطن فقدت السعادة، لم أشعر بوجودي كإنسان. في الغربة ينقصك الكثير، ينقصك الحب، ينقصك الأهل، ينقصك أهم شيء، ينقصك الوطن. نعم تستطيع أن تعيش بلا حب بلا سعادة بلا فرح، ولكن دون وطن لا أعتقد. تخرج من صمتك المخيف إلى الخارج، تطلق العنان لقدميك، تتوه في عالم الغربة، تبحث تفتش عن شيء يذكرك بالوطن، لا شيء. كل ما تراه مختلف جداً، الحياة في الغربة قاسية مؤلمة غير مشابهة لحياتك التي تعيشها في الوطن، ومع ذلك تسير بك قدماك إلى أين؟ لا تدري، المهم أنك لا تستطيع أن تعيش بعيداً عن الوطن. في الغربة أدركت كم هو غال هذا الوطن، كم هو جميل هذا الوطن. في الغربة تتمنى أن يكون الوطن معك، حفنة من تراب هذا الوطن بلا شك تساوي بلادا بأكملها. في زحمة الوجوه صادفته، تقدمت نحوه في ثوان معدودة تعرفت عليه، إنه عربي يعيش في الغربة منذ زمن، سألني عن سبب هذا الحزن الذي بدا واضحاً على تقاسيم وجهي، أجبته بأني مشتاق للوطن، فحاول أن يواسيني قائلاً: كلنا غرباء مثلك، ولكن لا نشعر بالاشتياق الشديد جدا إلى الوطن مثلك، فقاطعته قائلا: هل تشعر بالسعادة هنا؟ قال: بعض الشيء. قلت هل تشعر بالأمان؟ فقال: لا. قلت: هل تشعر بالرخاء؟ فرد: لا. فقلت: ولكن في وطني أشعر بكل ذلك، ويكفيني فخرا أنني أشعر بأنني إنسان له وجود ومكان، ولكن ليس هنا بل هناك في وطني. وقبل أن يودعني سألني قائلا: أمرك غريب يا أخي ولكن من أي بلد أنت فأجبته قائلاً: ( لي ديرة عالي السحاب يسكن في شم جبالها أطهر ثرى وأغلى تراب تفخر بفعل رجالها).