الناظر إلى شُرفةِ الشعر البهية، سيلاحظ خفوت الأضواء فيها - رغم المهرجانات والمسابقات- فلم يعدّ القرّاء ولا النقّاد يجدون شعراً يجلعهم يتبعبون القول: «ويسهر الخلق جراها ويختصم». وبعبارة أخرى: الشعرَ في وقتنا لم يعدّ ظاهرةً أدبية واجتماعية، بل صار إبداعاً فردياً، ولا أبالغ إن قلت «من ديوان أغلب الشعراء لم أجدُ سوى بضع قصائد تستحق الاحتفاء». وهذا ما يجعلنا نضع المشهد الشعري تحت مجهر تحليلي، ونشرّح أسباب وجود الفيروس في الشعر العربي، فهل وقع في براثن التقليد، وصار يكرر ذاته؟ أم أصبح لا يلبي حاجة نفسية واجتماعية وعاطفية - كما أبلغني العديد من طلابي الجامعيين عن سبب بعدهم عن الشعر الفصيح - ممّا جعل أغلب دور النشر تنأى بنفسها، عن طباعة دواوين الشعر، لأنها تعرضها لخسائر مادية بسبب عدم إقبال القارئ عليها. وعند حضوري لكثير من الجلسات الشعرية أرى حضور النخب، من أكاديميين ونقاد، وشعراء أدباء، ولم أُصادف غيرهم إلا نادرا، بينما تظهر مواقع التواصل مقاطع لشاعر شعبي وبفضاء مفتوح لا يتسع للحضور. فهل الشعر الشعبي يداوي كدمات الفرد لا سيما في العراق؟ وهذا ما جعل «شعبي» مظفر النواب إنجيلا يورثه جيل لجيل. وموفق محمد الذي يعدّ من أكثر الشعراء قرباً من الأجيال الجديدة، ومن كلا الجنسين فتيات وفتيانا، وإن أخضعنا قصيدته للمقاييس الفنية والإبداعية، نجدها تقترب من المباشرة، فهل شهرته بسبب موضوعاته الشعرية، التي تعبر عن دواخل كل مظلوم ؟ بالمقابل هناك شعراء كان ينمو الشعر بعروقهم، ولهم حضور إبداعي وجماهري، لكن الشعر طردهم من مملكتهم، فصاروا يعيشون على كتابة سيّرهم وسير مدنهم، ودراسات أدبية، ونقدية، ومنهم من يلجأ إلى الترجمة، والتحكّيم بجوائز أدبية، لا قصائد أو أعمال شعرية، حتى إن كتب، فليس بالمستوى الذي عهدناه، فهل انطفأ الشعر؟ أم أننا بحاجة إلى نازك أخرى تعيد مجده وتجعله ظاهرة كالشعر الحر؟، الذي صار مالئ الدنيا وشاغل الناس في تلك المرحلة. أم لأنَّ العراق الذي اكتوى بنار الحروب، وما خلفته من تشوهات في جسد المجتمع، فلم تهيأ الظروف لشعرائه الابتكار والتجديد، فأثّر على أخوته العرب؟ إنها تساؤلات وإشكاليات لابد من رصدها، تحتاج أولاً إلى الاعتراف بأن الشعر، لم يعد الجنس الأدبي الأول بلا منافس، بل زاحمه السرد والروايات، وفنون أخرى. هل سنقول إن الشعر لم يعد ديواناً للعرب؟ وبماذا سنستبدله؟ إنَّ القصيدة الحالية - أغلبها - مصاب بأمور عدة: فقر موهبة الشاعر، فهذه الأخيرة باتت لا تغذي جوعه الشعري، نجده يكتب قصائد بلفظ يخلو من المعاني، وهذه الأخيرة مطروحة في الطريق كما قال الجاحظ. والأمر الآخر لم يصل إلى أسرار اللغة، فصارت اللغة بقاموسها الكبير تعاني الركود، بل لن يعيد الشاعر خلق اللغة، فيلجأ إلى دسّها بالغموض والرمزيات، ويريد من قارئه، وناقده إن طبق قول الفرزدق عندما اعترضوا على قوله: «كان الزنا فريضة الرّجم»، فعندما واجهه أحد النقاد بغلط قوله، ردّ عليه بكلمته المشهورة: علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا. فكيف لنا أن نؤول هذا النص حاز على ألفي إعجاب لشاعرة ذات حضور عربي كبير، تقول: رجعت لي / كأن شيئاً لم يكن/ قل لي بربك أي شيء أرجعك؟ أرجعت تنشد وصلَ قلب صادق ضيّعته/ وبعمره ما ضيعك.. فالنص مباشر، لا صور فيه، ولا لغة مشحونة بالأفكار، وكل ما يحضر فيه العاطفة، والإغراق في الذات، وهذه الأخيرة تمثل ظاهرة غير صحية، في القصيدة العربية المعاصرة، لأنَّ غياب الآخر وألمه، وواقعه وما يمرّ به من أزمات فلمن يكتب؟ معاني الجاحظ المطروحة في طريق، تبدو هكذا عند أغلب الشعراء، فالقصيدة المعاصرة تعاني من أزمة لفظ ومعنى، وتشكل ظاهرة أيضاً، كقول - لا على سبيل الحصر- لأحد الشعراء الذين يشاد بإبداعهم، وله جمهور يقول: أنت لا تفهمين إذن رجل في كتاب / سوف يعبر مبنى الجريدة، شعركِ هذا الصباح فيشغلني عن دوار القصيدة/ أتأمل فوضاك من فتحة القميص سيمرُّ بي العطر/ يأخذني لتفاصيل جسمك أو لتفاصيل حزني.. فالنص إلى آخره يغيب عنه الموضوع، فضلاً عن توظيف لغة المحكي، التي أفرغت اللفظ من معناه، فصرنا نقول ماذا يريد أن يقول الشاعر؟ وهناك أمثلة كثيرة في الشعر العربي المعاصر، تتطلبُ دراسةً شاملة، وليس مقالةً، وما أوردته من نماذج شعرية سابقة لمبدعين، لئلا يقول القارئ إن حالة اللاشعر طبيعية، إن كانت لشعراء ضعيفي الموهبة أو الخبرة. كما أنني لا أغفل عن قضية أخرى وهي المرجعيات الثقافية، التي تحيلنا إلى منابع الشاعر الثقافية أيّا كانت أدبية، تاريخية، دينية، فلسفية، فنلحظ حضورها الخجول، أو الغائب بشكل نهائي. هذه الأمراض التي يعاني منها الشعر العربي، فهل يمكن إحالة الشاعر إلى سن التقاعد، كما فعل بلند الحيدري، عندما أعلن تقاعده! ففي قرارات كهذه أجدُ احتراماً للمتلقي، والأدب. كما أنها تستفز الجيل الجديد، ليشكل ظاهرة تخرج الشعر من سرير الإنعاش إلى عالم الإبداع. * ناقدة عراقية.