عبد الفتاح أحمد الريس باحث تربوي- تبوك في إحدى المناسبات وبينما كنت جالساً مع ثلة من الأصحاب سألني أحدهم سؤالاً في أمر يهمه ولكوني لا أملك من العلم ما يساعدني على الإجابة على سؤاله على اعتبار ذلك خارجا عن نطاق تخصصي وثقافتي العامة قلت له لا أدري تحاشياً لما قد يقع مني من خطأ أو خلل أو زلل انطلاقاً من مقولة (من قال لا أدري فقد أفتى) فما كان من هذا السائل وهو يسمع مني هذا الكلام إلا أن قال: وكيف؟ فقلت له لا أدري يعني حسب علمي حمل المرء على البحث والتقصي لبلوغ المراد على وجهه الصحيح، ولك أن تعرف بالإضافة لذلك بأن هذه الكلمة ليست وليدة اليوم حتى تستغرب فقد قالها الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن أي البلدان شر؟ ليسأل بذلك جبريل عليه السلام الذي قال له أيضاً لا أدري حتى إذا ما انطلق إلى ربه ثم مكث ما شاء أن يمكث عاد ليقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقد سألتني يا محمد أي البلدان شر؟ فقلت لا أدري وأني سألت ربي عز وجل أي البلدان شر؟ فقال (أسواقها..) رواه الإمام أحمد، وهناك الكثير من الصحابة وسلف الأمة الصالحين رضوان الله عليهم ينتهجون مثل هذا الصنيع عندما لا يجدون الإجابة على أي سؤال يُطرح عليهم، ولعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه والإمام مالك والشافعي خير شاهد على ذلك، فمما قاله أبو بكر رضي الله عنه في هذا الخصوص : أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله بغير علم. في حين قال الإمام مالك في اثنتين وثلاثين مسألة لا أدري من جملة ثمانية وأربعين مسألة عُرضت عليه ومثله الإمام الشافعي الذي سئل ذات مرة عن المتعة أكان فيها طلاق أو ميراث أو نفقة تجب أو شهادة فقال لا أدري، فقول المرء لا أدري لا ينقص من قدره ومكانته العلمية شيئا كما يظنه بعض الجهل من الناس وإنما يرفعه إلى درجة عالية وقدر كبير بين هؤلاء الناس ولهذا ما أجمل أن نقول لما لا ندري ...لا ندري عندما نسأل عن أي من نواحي الحياة في حالة عدم علمنا بها على أن نجتهد في البحث عنها من باب العلم بالشيء ولا الجهل به. يقول البارودي في كتابه أدب الدين والدنيا (فإذا لم يكن إلى الإحاطة بالعلم سبيل فلا عار أن يجهل بعضه وإذا لم يكن في جهل بعضه عار لم يقبح به أن يقول لا أعلم فيما ليس يعلم). على أي حال لا أخال عليكم فإن ما دفعني لكتابة هذا الموضوع هو ما لمسته من بعض الأشخاص من أنهم يجيبون على ما يُطرح عليهم من تساؤلات فقهية من قبل أناس آخرين بينما هم في حقيقة الأمر ليسوا على قدر كاف للإجابة على تساؤلاتهم أو أنهم لا يملكون هذه الإجابة أصلا وهو التصرف الذي ربما يوقعهم فيما لا تحمد عقباه من السلوكيات الخاطئة التي تتنافى بعض الأحيان مع تعاليم الإسلام. لذلك ومن هذا المنطلق أدعو كل سائل يريد أن يعرف شيئاً فيما يهمه من أمور الدين والدنيا أن يتوجه بسؤاله إلى ذوي الاختصاص وممن مكنهم الله بعلم غزير وهم كثر في هذه البلاد المباركة ولله الحمد ممثلا في علمائنا ومشايخنا الأجلاء وممن تجمعهم هيئة كبار العلماء وفي مقدمتهم جميعا مفتي عام المملكة حفظه الله انطلاقا من قول الله تعالى (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون). كما أنني أدعو في ذات الوقت إخواني المعلمين وأخواتي المعلمات إلى ضرورة تحري الإجابة الدقيقة على تساؤلات أبنائهم الطلاب والطالبات بحيث إن النقص في الإجابة أو الخطأ فيها ربما يبنى عليه معلومات خاطئة لدراستهم فيؤثر حينئذ على تحصيلهم العلمي، وليدرك الجميع من هذا المنظور أن الخطأ إذا ما وصل إلى ذاكرة الإنسان واستقر فيها دونما تصحيح لا حق فإنه بلا شك سيصبح جزءًا لا يتجزأ من المكون الفكري لهذا الإنسان والذي ربما يتحول فيما بعد مع الظروف المواتية إلى سلوك غير مناسب أو غير مرغوب فيه أو سيئ ينجم عنه أضرار ذاتية تتجاوزه إلى أناس آخرين، ولعل ما وقع من بعض الأفراد في سنوات ماضية من سلوكيات أضرت بمجتمعنا المسلم في بعض جوانب الحياة من جراء مفاهيم خاطئة في العقيدة قد تلقوها من أشخاص لهم اهتمامات في هذا الشأن خير دليل على مدى خطورة مثل هذه الأخطاء، ولذلك ما أحرانا بالتنبه والاهتمام لكل ما نقوله للناس من إفتاء أو تعليم أو غيره لنقي بالتالي أنفسنا ومجتمعنا ووطننا من الوقوع في مثل هذه الإشكالات غير المحمودة العواقب وحينئذ لا ينفع الندم فمن قال لا أدري فقد أفتى والوقاية خير من العلاج، والله هو الهادي إلى سواء السبيل.