في رمضان كنا نتجاوز عن هفواتنا، ونسلم أنفسنا إلى بيئات متسامحة لا تقبل غير الحب.. تموت في القرية كل الخلافات الدنيوية احتراماً للشهر وبركته، كانت النفوس تتقارب أكثر في رمضان، فلا قطيعة ولا خوف ولا رياء يختلط بالحياة، تتسلل قيم التسامح في نفوس الجيران، فتغدو البيوت واحدة، تتهادى وتتسامر وتلتقي على حكايات طيبة وأحاديث مقبولة. في رمضان القرية تلتقي أسر لم يكن لها نصيب في التقاء بذاك العدد، ويتقابل أفراد وجماعات لم يكن لهم نصيب في حديث كله خير، ليعرف بعضهم بعضاً أكثر وأكثر.. في قريتنا كان المسجد جامع الناس إلى صلاة الجمعة، لم نكن نعلم تاريخ بنائه، لكننا نعلم جيداً أنه قديم جداً، ويتضح ذلك من طريقة بنائه والأدوات التي استخدمت فيه، لم يكن الناس قد تدربوا على الصلاة في غيره، ولا البحث عن إمام يلهب نفوسهم حماسة، ويقلب أفكارهم رأساً على عقب، كان الناس في قريتنا يحضرون إلى المسجد من كل بيت، يصعد خطيب الجمعة المنبر دون سابق تحضير أو تفكير فيما يقرأ، يمد يده إلى كتاب قديم ما زلت أحفظ لون غلافه وقد كان أبيض، خيطت أطرافه بخيوط متينة، خوفاً عليه من التلف! كان كتاب الخطب يحفظ في مكان بارز إلى جوار المنبر فلا يجرؤ كبير أو صغير على لمسه أو الاقتراب منه، لا أذكر - برغم شقاوتنا - أننا تطفلنا عليه، أو حاولنا قراءة ما فيه، ومع أن الخطب تقرأ في السنة أكثر من مرة إلا أنها كانت تأتي مفاجئة للكبار، لكنها لم تكن مدهشة بالنسبة لنا، أو مؤثرة، فلم يكن في حياتنا ما يدعو إلى الدهشة أكثر من طبيعة الحياة وتلقائيتها! ما زلت أذكر تلك الاجتماعات التي تعقد بعد صلاة الجمعة، في مكان أطلق عليه (المنصفة) ولا أعلم لماذا سميت بهذا الاسم، ما أعلمه أن أهل القرية كانوا يتبادلون تحتها قضايا القرية ومشكلات أهلها.. حين أنظر إليها اليوم تصيبني الدهشة، فأسأل: كيف كان كل ذلك العدد يجتمع في مكان ضيق مثل هذا؟! ما زلت أذكر جيداً أن العدد لم يكن قليلاً، لكنها سعة القلوب التي لا تعرف الضيق ولا تشعر به! كانت أغلب تلك الاجتماعات تعقد من أجل الخير، فتكون أولوية أحاديث المجتمعين في فك ضائقة محتاج، أو قضاء دين معسر، أو تلبية رغبة مدين! ليست القرية كاملة، لكنها مجتمع مدني في بساطة حياة، وسهولة عيش!