أحمد الحديدي إعلامي مصري مقيم في دبي استفزتني حالة البرود والهدوء لدى بعض زملائي في العمل الذين يخططون لإجازتهم السنوية من غير مراعاة لمشاعرالآخرين من أصحاب دول "الربيع العربي"... وما استفزني أكثر هو حدة النقاش بينهم، فالبعض يفضّل أستراليا لبعدها عن الأحداث... والبعض الآخر لا يخجل من التصريح بأنه ذاهب لأوروبا للاستمتاع بالحريات هناك. ولكن مجموعة ثالثة قاطعت بأن الحريات الحقيقية والمتعة في دول الشرق الآسيوي حيث المساج وأشياء أخرى! انقطع هذا الحوار المستفز فجأة على صوت أحد الزملاء السوريين وهو يصرخ في التليفون "شلون الأهل؟ هل القصف قريب منكم؟ اهربوا بسرعة بسرعة".. ثم أخذ ينتحب ويبكي بصوت عال.... حالة من الوجوم أصابت الجميع، وتوقف بي الزمن، لا أدري ماذا أفعل مع هذا الصديق العزيز. أحسست أننا جميعا معرضون لأن نكون في موقفه. ياألله... أناس يبحثون عن المتعة في الشرق والغرب، وأناس لا يستطيعون حتى الوصول إلى أهلهم الذين يتعرضون للقصف والقتل بأفتك الأسلحة التي من المفروض أن توجه إلى العدو الإسرائيلي، وليس إلى صدورالأطفال والنساء العزل... حاولنا التخفيف قدر المستطاع عن زميلنا الذي انهار تماما بعد انقطاع الاتصالات تماماً مع أهله، فقرر الاستقالة والسفر لبلاده للدفاع عما تبقى من أهله ضد ممن يفترض بهم أن يكونوا أهله... لم أخرج من حالة الحزن إلا عندما اتصلت بي والدتي تسألني عن موعد إجازتي وهل حجزت تذاكر السفر أم أنني سأهرب مثل العام الماضي! أجبتها "لا يلدغ المؤمن من جحرمرتين" يا والدتي العزيزة تعلمت من درس السنة الماضية. كنت قد أصدرت "أمرا عسكريا" في البيت بمنع السفر لتقليل نفقاتنا، وبدلا من السفر الخارجي علينا بالسفر الداخلي كما أن الأهل سيشتاقون لنا أكثر، وبفلوس الهدايا يمكننا أن ندفع مصاريف المدارس للعام المقبل وشراء أجهزة جديدة للبيت إلخ ... لم تقتنع زوجتي وأولادي بكلامي ولكنهم تظاهروا بالموافقة... فرحت جدا بانتصاري واتصلت بأهلي وأخبرتهم بعدم مقدرتي على السفر بسبب ظروف عملي وأنني مشغول ب"الربيع العربي" وما إلى ذلك من الحجج الجاهزة. بدأت الإجازة، وبدأ أولادي وزوجتي في تطبيق خطتهم المدروسة وهي السفر معي إلى مختلف المناطق الداخلية في الإمارات وشراء بعض الهدايا من وراء ظهري... وعندما انتهت إجازتي كانت المفاجأة، فقد أخبروني أنهم جاهزون للسفر لأنني سأذهب للعمل وهم لا يريدون الجلوس في المنزل طوال اليوم كما أن جميع جيراننا وأصدقائنا سافروا... وعندما سألتهم عن الحل كانت الإجابة حاضرة... أنت تظل هنا ونحن نسافر... طبعا أرفقوا كلامهم هذا بدراسة مستفيضة عن كافة عروض شركات الطيران والرحلات المباشرة وغيرالمباشرة، وقبل أن أستفيق من الصدمة قالوا لي إنه يمكنني استعمال الفيزا كارد لكي أربح نقاطا إضافية. أحكموا الخناق بخطتهم الذكية ولكي أتخلص من الإلحاح المتواصل ليل نهار حجزت لهم التذاكر وسافروا بالفعل... ظللت وحيدا أستمتع بشمس الخليج الحارقة في الصيف بينما هم يستمتعون بالهواء العليل ودفء مشاعرالأهل في الوطن. كان الدرس قاسيا فقد عانيت من الوحدة في الغربة كما ظللت نحو ستة أشهر كاملة أسدد الفيزا كارد وفوائدها للبنك... ولكن المهم في الموضوع هو أنني تعلمت التخطيط للإجازة القادمة عن طريق حجز التذاكر مبكرا وإحكام المصاريف وتقليل الهدايا للأقارب والأصدقاء فقط بدلا من الحي والمحافظة كما كانت تفعل زوجتي المصون، وتحجيم طلبات أولادي وربطها بتفوقهم الدراسي فقط. وليت كل مغترب يتذكر أنه في رحلة لا يعلم إلى أي مدى ستستمر، ولا يعلم متى سيعود إلى وطنه.. وعندما يعود سيعاملونه على أنه مليونير، وما عليه إلا الاستعداد لهذا اليوم.