لم تعد القرية ساكنة كما كانت، منغلقة أو مستكينة، فقد استجابت كثيراً لرغبة التغيير والاختلاف، لا يمنعها شيء، ولا يقف في طريق الحياة الجديدة فيها ظرف أو طارئ، فمنذ اللحظات الأولى لدخول الكهرباء العموميّة فيها، انقلبت أشياء كثيرة في حياة النّاس، فأدخل التلفزيون، والثلاجة الكهربائيّة، وأصبح مؤذن قريتنا يرفع الأذان في مكبّر الصوت، وبدأت قريتنا كغيرها من القرى المجاورة لها تستقبل أبناءها وبناتها العائدين والعائدات من مدن المملكة الرئيسة الذين تركوا القرية لظروف العمل، وعادوا إليها من أجل رمضان، فقد كان رمضان في القرية بمثابة الفرصة المناسبة للالتقاء، والموسم الذي ينتظره الكبار والصغار، فكان الفرح يعمّ أرجاء قريتنا حين نلتقي ليلاً كباراً وصغاراً في بيت من البيوت نتسامر، ونتناجى، فلا تغيب الفرحة عن بيتنا طوال الشّهر ولا تُقتصر علينا، بل تصل السعادة إلى أهل قريتنا الذين عادة ما يفرحون بمقدم الغريب العائد في رمضان، فنلتقي بهم بعد كلّ صلاة، لنقتطع وقتاً في الحديث وتبادل الأخبار. كانت الإجازة المدرسية توفّق كثيراً في هذا الالتقاء الموسمي المنتظر، فيفرح كلّ بيت بمقدم ابنه أو بنته، وتأتي معهم الموائد المختلفة، فقد علمتهم رحلة الحياة في المدن أشياء كثيرة لم نكن نعرفها في القرى، فأدخلت السمبوسة إلى مائدتنا، كما أدخلت المعكرونة، وأدخلت الشوربة وبعدها بوقت أدخل الجلي والكريم كارميل... لكنّ تلك الأشياء التي أدخلت إلى مائدتنا الرمضانية لم تغيّب إلى اليوم أشياء كثيرة في حياة القرويين، فلا بديل لخبز التنّور في القرية يرضي الكبير وإن امتدت يده إلى شيء آخر! كانت مائدة رمضان بالنسبة لنا حين يأتي أخ أو أخت ومعهم أطفالهم عيداً ينتظر العيد، فتلتقي الأسرة الواحدة على مائدة واحدة، فيها الصائمون، وفيها غير الصائمين، وتلتقي الأسرة الواحدة في أحاديث كثيرة لا تحجبها رؤية فقيه، ولا تمنعها. مع الأيام اعتاد القرويون كثيراً على مائدة الغريب العائد من غربته، فلم يعد في القرية شيء غريب يشبه غرابة الفتى القروي حين دخلت المعكرونة بيتهم لأوّل مرّة، بعد أن أهدتها لهم جارتهم (التي جلبها أبناؤها القادمون من مكة) في إناء دون أن يكون عليها شرح يبسّط عملية طهوها، وقف الفتى القروي أمامها ثلاثة أيام، يتحسس ملمسها، ويعضّ عليها بأسنانه، بين مقبل على التهامها (دون طهو) ومدبر عن ذلك!