لا شيء يغيب في ظلّ هذا التدافع الكبير بين ماض جميل وحاضر أجمل إلاّ أنّ هناك أشياء تغلب أشياء، فيصبح ذكرها سعادة، وفقدانها شقاء، هكذا يقرأ الفتى القروي شيئاً من ماضيه، فيعلي ما حقّه العلو، ويستذكر ما يستحقّ الذكر. في ذاكرة الفتى القروي شيئان مهمان ارتبطا بالتلفزيون ومتابعته، وتاريخ دخوله القرية، الأوّل كان قبل رمضان، والثاني في رمضان.. قبل رمضان ارتبطت ذاكرة الفتى القروي ورفاقه في التلفزيون بالمصارعة الحرّة، وكنّا قبل موعدها نعاني الأمرّين، نعاني خوف الكهرباء أن تخذلنا، فتنطفئ، وخوف النّوم أن يغلبنا، فتذهب علينا المشاهدة، وتغيب معها حكايات اليوم التالي الذي عادة ما تكون المصارعة الحرّة وما دار فيها محور أحاديث الرفاق فيه. كان الفتى القروي ورفاقه وبعض رجال القرية الكبار متابعين دائمين إلاّ أن يغلبهم النوم أو تنطفئ الكهرباء التي كانت تأتيهم من مولدات كهربائية خاصّة، فتعمل ليلة، وتتعطل ليالي أخرى كثيرة. أمّا رمضان التلفزيون فقد ارتبط بحديث لا يملّ، ومائدة لا أعتقد أنّ من أدركها لم يكن يغيب عنها، تلك مائدة الإفطار للشيخ علي الطنطاوي، يرحمه الله، فقد كان حديثه بالنسبة لنا قريباً منّا، ملتصقاً بأرواحنا، يأخذنا في تجلياته الجميلة إلى رمضان الصوم والعبادة والحياة، فلا يبذر الخوف في نفوسنا، بل يحيي الأمل الكبير فيها، فيأخذنا حديثه واستطراده وسلاسة القول إلى عوالم أخرى لم نكن على دراية جيدة بها. كانت مائدة الطنطاوي في رمضان جاذبة الكبير والصغير، فقد كان آباؤنا وأمهاتنا يشاركوننا تلك المائدة منصتين بأدب جمّ يندر أن يُشاهد أمام شيء آخر. في ذاكرة الفتى القروي صور لا تغيب، ومواقف ارتبطت برمضان الطنطاوي، فالساعة التي تتحرك بين يديه، والمسجّل الذي يحفظ فيه أحاديثه، والفاكهة التي تتوسط طاولة حديثه، والشكل العام الذي يعلوه وقار الكبار وتواضع العلماء، باقية إلى اليوم في ذاكرته وفي حياة كثير ممّن حوله، فقد أضحت اليوم أثراً بعد عين، لكنّها لم تمت، بل بقيت حيّة تستذكر، وتستنسخ مع فارق التشبيه والتقدير.