ما زال الفتى القروى ورفاقه اليوم يستعيدون بشيء من الحنين تلك الأيام التي كان لرمضان فيها شأن مختلف عن غيره من الشهور. ونحن صغار، كنا نتسابق على مسجد القرية، بانتظار شيء لا يأتي إلا في رمضان، ولا يكثر إلا به، كنا ننتظر تلك الأيادي التي تمتد إلينا بحبة تمر، أو كسرة خبز ساخنة، لا يؤخرنا عن محراب المسجد سوى أذان المغرب، فكلما اقترب الأذان توافدت (فطرة) رمضان من كل بيت في القرية. حين يلتقي رجال القرية في (صوح) المسجد، وهو الفناء الخارجي فيه، وقد اصطحب كل رجل منهم قهوته والموجود في بيته من التمر و(زنبيل) مملوء بخبز التنور الذي عادة ما تطحنه المرأة بنفسها ويكون الحب المطحون من موجودات أرض القرية والقرى المجاورة لها. ما زال الفتى القروي يذكر تلك الأيام، فلا تغيب الصورة التي كانوا عليها، والمسجد الذي كان عامرا بالكبير والصغير عن ناظريه، وقد أكمل اليوم عقده الرابع. لكنه يحن كثيرا لتلك الأيام التي تدفعه إلى البقاء متشبثا بذاكرة لا تقصي حاضره، لكنها تفتح له بابا آخر من أبواب الأمل. لم يكن السر في تهافتنا على تلك التمرات المعدودة حاجتنا أو عوزنا، لكنها لذة الشيء التي زينت لنا المكان الذي يجتمع فيه الكبير والصغير، والوقت الذي كنا نتحين من خلاله الفرص المضاعفة في قلة الشيء. بعد صلاة المغرب نعود إلى بيوتنا، لنجد أمامنا الطعام، فلا تتساوى عندنا لذتان: لذة كسرة خبز وحبة تمر أو حبتين في المسجد، ولذة خبز التنور الساخن وما يعرف في القرية بال (مغش) أو التدويلة وشيء من لبن البقر والسمن والعسل. لم تكن صناعة الألبان ومشتقاتها، والحلى وأنواعه، والمعكرونة قد غزت موائدنا في القرية. وحده شراب التوت كان ضيف مائدة رمضان، وكنا نهيم به مذابا بعد إفطار رمضاني شاق ومرهق. كنا نطلق عليه (شاهي بالشربيت) والذي عادة ما يُقدم في ليالي السمر الرمضانية التي تزدان بالقريب والبعيد، الكبير والصغير، فيا لتلك الأيام المفعمة بالذكريات، ذات المذاق العالي، والمزاج المستوي.