كلّ ملامح اليوم الأول في رمضان تعبّر عن يومٍ مختلف، فطبائع الناس وحركة سيرهم، والأعمال التي يقوم بها الرجال والنساء تجعل اليوم الأول في رمضان يوماً يختلف عن بقية الأيام التي تسبقه! أشياء كثيرة في حياة الناس في القرية تبدو غريبة.. لكنها بطبيعة الحال تجلب لهم سعادة لم تعهد من قبل، لكنها تظل مرجوّة فيما بعد! يبدأ اليوم الأول في رمضان بالتفاف أسرّي ربما لم تعهده الأسرة كبيرة كانت أو صغيرة من قبل، فالبعيد ينتظر رمضان، ليجلب أسرته إلى هدوء القرية وفضائها الأرحب، والقريب ينتظم في حياته فلا يفوّت فرصة الالتقاء في رمضان، كي يشعر بالشهر الفضيل كما يجب، يستحث في أيام رمضان الكبيرُ الصغيرَ على الصوم، ويعد ربّ كلّ أسرة وكبيرها أبناءه الصغار بمكافأة، لا تتجاوز أن يمنح فرصة تناول وجبة السحور معهم في اليوم الأول لمن أعلن نيته الصوم، تأخذ تلك المكافأة المعلنة مأخذها وتؤدّي دورها لبعض الوقت، قد لا يمتد صيام الصغار في السن إلى نهاية اليوم، فآثار التعب يخفيها الصغار بشربة ماء في الخفاء، تُدنى من الأفواه المتعطشة بعيداً عن عيون الكبار التي ترقب، لكنها تعاقب بتكليف المفطرين في نهار رمضان بأعمال تفوق تلك التي يقوم بها الكبار، احتراماً للصوم، وتقديراً لتعب الصائم، لكنّهم يجاهدون نفوسهم في إتمام يومهم دون إفطار، كي يقال أمام أهل القرية إنّهم صاموا! مازال الفتى القروي يتذكّر بعض تلك الأيام التي كان يُحرم فيها من فرحة الإفطار مع الصائمين، لأنه لم يكمل صومه، وعليه فقد كُلّف بعمل شاق يصعد فيه جبلاً شاهقاً أمام بيته، ليستعيد منه قطيع الغنم الذي لا يؤمن عليه إن بات بعيداً عن البيت! أعلم أن الصوم كان بغية الصغار، وطموحهم، لكنّ صعوبة الحياة، وحرارة الشمس، وغياب المكيّفات (لم تكن قد دخلت القرية بعد) كانت دوافع قاسية، تجعل الفتى ورفاقه يختصرون الصوم في نصف نهار، وربما في ربعه! لم تكن تلك الأيام مجرد ذكريات عابرة فقط، لكنها صور من الحياة التي كانت، برغم ما فيها من الشقاء، إلاّ أنّها بطبيعة الحال منحتنا اليوم مساحة كافية من التأمل في زمنين، زمنٍ كنّا فيه ندار، وزمنٍ أصبحنا فيه ندير الحياة ومن نعول!