"هذه الشمس المشرقة على لندن من أهم أفراح الأولمبياد".. هكذا علق صديقي فيما كنا نعبر شارع الإدجوار رود ونعرج منه إلى أكسفورد وصولاً إلى ساحة البيكاديلي أول من أمس، وذلك قبيل يوم واحد وخمس ساعات و31 دقيقة و35 ثانية حسب ساعة للعد التنازلي وضعت في الساحة، كانت تحسب الزمن المتبقي لانطلاقة الحدث الذي افتتحته ملكة بريطانيا الملكة إليزابيث الثانية، في ال 11 من مساء أمس، في حفل بهيج ضخم على الإستاد الأولمبي بلندن، بحضور 62 ألف متفرج، وتابعه أكثر من مليار متفرج في أنحاء العالم، من خلال شاشات التلفزيون، واستمر الحفل الذي تضمن لوحة تقليدية للريف البريطاني، أقل من الثلاث ساعات، بعدما قلص زمنه مراعاة لعمل خطوط النقل العام في العاصمة البريطانية. وبلغت تكلفة العرض الفني نحو 27 مليون جنيه إسترليني "42 مليون دولار". وأطلقت شمس لندن أول من أمس، وحرارتها المعتدلة قاطني المدينة وزوارها، فازدحمت الشوارع، وضاقت حديقة الهايد بارك على اتساعها بروادها الذين استلقى كثيرون منهم على عشبها الندي، فيما استهوت آخرين ممارسة الرياضة، فكثر الجري والقفز، ووجد أحدهم في هذا الجمع الغفير فرصة لاستعراض مهارة التحكم بالكرة فكان يداعبها بلا توقف بين قدميه وركبتيه ورأسه، مستمتعاً بكم المعجبين بمهارته الذين وقفوا بدهشة المتابعة.. فيما كانت الشرطة البريطانية تتحرك في المكان بهدوء، مرسلة كثيراً من رسائل التطمين إلى أن المدينة في أيدي أمينة. كانت إشراقة الشمس قد جاءت بعد أيام من الأمطار والبرد الذي شهدته المدينة، والذي اضطر قاطنيها لارتداء لباس خريفي في عز الصيف، ولكن أول من أمس، كان مكتب الأرصاد الجوية البريطانية يعلن عن احتمالية هطول الأمطار خلال حفل الافتتاح، لكنه شدد على أن نسبة الهطول لاتتعدى 40% في مقياس الاحتمالات، وأنها نسبة تتراجع مع الوقت. وأشار المكتب إلى أن احتمال الهطول سيسبق الافتتاح بساعتين، وأن الموجة الحارة التي شهدتها مناطق في بريطانيا خلال الأيام الأخيرة ستبلغ نهايتها بعدما أدت لمناخ غير مستقر. سوق سوداء لم تقف المخاوف التي سبقت الافتتاح أمس فقط عند الطقس وتقلباته، وتحذيرات مكتب الأرصاد، بل امتدت كذلك لتطال ارتفاعاً جنونياً في أسعار التذاكر في السوق السوداء والذي وصل ببعض التذاكر إلى نحو ألف جنيه.. وزاد بعضها أكثر من ذلك بكثير. ويقول ستيفن هامت وهو طالب جامعي "هي فرصة قد لا تواتينا مرة أخرى.. هذا حدث لا يتكرر في العمر.. لذلك لا مشكلة حينما يكلف الأمر مبلغاً كبيراً يمكن أن يجعلك جزءا من هذا الحدث". ويؤمن الإنجليز أن كونهم جزءا من الحدث لا يأتي فقط في حضور حفل الافتتاح الذي يكلف مشاركة مع حفل الختام 81 مليون جنيه إسترليني (482 مليون ريال)، بل في أنهم يعدون أنفسهم في مهمة وطنية عبر المشاركة بأي صورة في الأولمبياد، خصوصاً أن الإنجليز معروفون بحماستهم الشديدة لوطنهم، وانتمائهم الشديد إليه، وكفاءتهم في التعبير عن هذا الانتماء. ولذا حرص عمال المحلات والمطاعم على ارتداء شعارات تحمل الحلقات الأولمبية الخمس، و(لندن 2012)، كما انتشرت لوحات قماشية في كثير من الشوارع تحمل ذات الحلقات والعبارة.. وفي وقت بدت فيه الفقرة الافتتاحية لحفل أمس مفاجئة للبعيدين الذين تابعوها تلفزيونيا أمس، وهي تحول الملعب الأولمبي إلى لوحة ريفية مستمدة من رائعة شكسبير (العاصفة) ازدحم فيها 70 خروفاً و12 حصاناً و3 بقرات ورأسان من الماعز و10 دجاجات و3 كلاب، كان الأمر مختلفاً للقريبين من الحدث، فقد كان مألوفاً أن تمر كلاب ملفوفة بالعلم البريطاني في الشوارع، وكأنها بدورها تروج للحدث. وفي شارع ريجنت انتشرت أعلام كل الدول المشاركة في الحدث.. كان الأمر أشبه بمهرجان للألوان.. تتجاور فيه الأعلام بشكل لافت، وتمتد في النهاية، وغير بعيد عن ريجنت إلى ما يشبه المجسم الخشبي مقابل ساعة بيج بن (أو برج إليزابيث كما اصطلح على تسميته رسمياً منذ فترة قريبة جداً)، تنتشر عليه أعلام كل الدول، والذي شد انتباه كثيرين ممن حرصوا على التقاط الصور قريباً منه، وفي زوايا تظهر أعلام كل منهم. أهل العرس غائبون أعلنت تقديرات أن عدد متابعي حفل الافتتاح أمس لامس المليار شخص حول العالم، استمتعوا بفقراته التي وضع لمساتها الإخراجية لها المخرج البريطاني داني بويل الفائز بالأوسكار عن فيلمه (المليونير المتشرد). وقدم الحفل استعراضاً لمشوار بريطانيا من أيام الرعاة الحالمين، تعريجاً على الثورة الصناعية، وصولاً إلى الوقت الحالي الذي يمزج التطور والعصرية بثقافة شعبية شديدة الاعتداد بالذات. كما أجاب عن سؤال عريض طالما طرحه البريطانيون أنفسهم، وتعلق بما إذا كان الأمر يستحق جهد وعناء سبع سنوات من العمل، وإنفاق 14 مليار دولار في بلد يعاني ركوداً اقتصادياً خانقاً. لكن وسط كل هذا، غاب أصحاب العرس، فكثير من النجوم المشاركين في الدورة تغيبوا عن حضور الحفل في الملعب الأولمبي، وكان ذلك لطول زمنه وتأخره حتى وقت متأخر من الليل يصادف في الأغلب مواعيد نومهم كرياضيين، وكذلك لأن بعضهم يتنافس في مدن أخرى غير لندن، مما يعني أن المتنافسين اليوم أو غداً لن يجدوا فرصة لالتقاط الأنفاس. ولم يكن الرياضيون البريطانيون استثناء على الرغم من أنهم المضيفون، فقد غابت أكثر من نصف البعثة، تجنباً لوقوف طويل ومرهق في طابور العرض. وضماناً لحضور كل الرياضيين في حفل استثنائي، اقترح البعض ممن يعنون بالجانب الطبي للرياضيين أن تسبق احتفالات الافتتاح المقبلة انطلاقة المنافسات بنحو 72 ساعة. من أين أنت؟ كانت القرية الأولمبية قد ازدحمت مبكراً أمس بالقادمين لمتابعة الاحتفال، كان الأمر حدثاً أممياً يجمع كل أطياف المعمورة، تزدحم فيه كل الألوان والأعراق والجنسيات.. كان السؤال الأكثر تردداً سواء في القرية أو حتى في لندن كلها هو "من أين أنت؟".. فبعد إلقاء التحية، كان كل شخص يسأل الآخر، من أي بلد أنت؟. وفي وقت تفخر فيه لندن بأنها لوحة تمزج بين الثقافات والشعوب حتى إن قاطنيها يتحدثون ب300 لغة مختلفة، وقد قال الكاتب بيتر أكرويد في كتابه عن تاريخ لندن "إن لندن لا ترفض أحداً"، بدت الصورة أوضح أمس في مزيج جميل جاء من كل حدب وصوب، فاختلط القادمون من بلاد السامبا مع الدانماركيين، وتصافح الصيني مع الإكوادوري، وابتسم قادم من كندا في وجه نيجيري.. كاميرات في كل مكان ولأنه الحدث الأبرز عالمياً، بدت كاميرات التلفزيونات ومراسلوها في كل زاوية، وكل شارع.. كانت جميع المحطات تترقب لاصطياد حدث، ولقاء، ووجه يأتي في الزحام.. قريباً من مسارح بيكاديلي كان مراسل القناة الإخبارية السعودية كريم جوهري يلتقط (المايك) ويقف أمام الكاميرا متحدثاً عن عابرين كانوا خلفه.