شهدت بلاد الأزمات والحروب في الآونة الأخيرة انتعاشة جديدة لما عرف بأنه «العلاج الوهمي» إذ تم اللجوء إليه في ظل غياب البدائل، وأعطى في أحيان عدة نتائج إيجابية. لكن هذا العلاج لم يكن حكرا فقط على تلك البلدان الراسخة تحت نير الأزمات وفقدان الأدوية ونقص الخدمات الصحية، بل حتى في أحسن الدول تقدما كانت له استخداماته وآثاره الإيجابية التي لا يمكن إنكارها. ومنذ آلاف السنين، أدرك الأطباء والمعالجون أن طرق «العلاجات الكاذبة» مخصصة للأشخاص السعداء، ويرى كثير من الباحثين ومتابعي العلوم أن قلة من الأمور قد تكون أكثر إثارة للحيرة والارتباك من تأثير الدواء الوهمي، فكيف لحبة سكر عديمة الفعالية أن يكون لها أي قيمة علاجية؟. تحتاج الإجابة على هذا السؤال إلى فهم واضح للسياق الذي يحيط بالعلاج الطبي، وهي البيئة التي تجتمع فيها رموز وطقوس الرعاية الصحية بتفاعلات عاطفية مشحونة تنشأ عندما يواجه المرضى معالجيهم، فلا ينبغي لنا أن نغفل أهمية الثقة والتعاطف والأمل والخوف والتهيّب وعدم اليقين في اللقاء العلاجي. علاج من التوقعات نشرت الهيئة العامة للغذاء والدواء نتائج دراسة استقصائية وطنية من أطباء الباطنية وأطباء التهاب المفاصل (الروماتزم) في الولاياتالمتحدة، وكان الهدف من هذه الدراسة وصف المواقف والسلوكيات المتعلقة بالعلاج الوهمي الذي يتم تعريفة بأنه العلاج الذي منافعه مستمدة من التوقعات الإيجابية للمريض وليس من الآلية الفسيولوجية للعلاج نفسه. وبلغ عدد المشاركين في هذه الدراسة 1200 ممارس لطب الباطنية وطب التهاب المفاصل في الولاياتالمتحدة، وخلصت إلى النتائج الآتية: تجاوب 679 طبيبا (57%) مع هذه الدراسة، ونحو نصف من شملهم الاستطلاع من أطباء الباطنية وأطباء التهاب المفاصل صرفوا العلاج الوهمي على أساس منتظم. معظم الأطباء (399، بمعدل 62%) يعتقدون أن هذه الممارسة مسموح بها أخلاقيا. وأفادت التقارير أن البعض منهم استخدم الملح (18، بمعدل 3%) أو حبوب السكاكر (12، بمعدل 2%) كعلاج وهمي، في حين أن نسبة كبيرة منهم استخدموا الأدوية اللاوصفية كالمسكنات (267، 41%) والفيتامينات (243، بمعدل 38%) كعلاج وهمي في السنة الماضية. نسبة قليلة، ولكنها جديرة بالذكر أن بعض الأطباء استخدموا المضادات الحيوية (86، بمعدل 13%) والمهدئات (86، بنفس المعدل 13%) كعلاج وهمي. وعلاوة على ذلك، فإن الأطباء الذين يستخدمون العلاجات الوهمية الأكثر شيوعا تم وصفها للمرضى على أنه علاج مفيد (241، بمعدل 68%)، إلا أنه نادرا ما يصارحون مرضاهم بأنهم وصفوا لهم علاجا وهميا (18، بمعدل 5%). واستنتج من هذه الدراسة أن وصف العلاج الوهمي يعد مسموحا به أخلاقيا في الولاياتالمتحدة، وأن الفيتامينات والأدوية اللاوصفية كالمسكنات هي الأكثر شيوعا في المعالجة، وأن الأطباء لم يتعاملوا بشفافية تامة مع مرضاهم عند استخدام العلاج الوهمي. التأثير في الشعور يؤكد أستاذ علم الطب في كلية الطب بجامعة هارفارد، تيد.ج. كابتشوك، وأستاذ علم النفس في إنديكوت كوليدج، مدرس في كلية الطب بجامعة هارفارد، جون.م.كيلي أن «الأدوية الوهمية تؤثر في الأساس على التقييم الذاتي للمريض، فهي لا تستطيع أن تقلص ورما، ولكنها قادرة على مساعدة المريض من خلال تخفيف شعوره بالأعراض المرتبطة بالسرطان وعلاجه مثل الإجهاد والغثيان والألم والقلق. ولا يمكنها أن تقلل من نسبة الكوليسترول أو تخفض ضغط الدم المرتفع، ولكنها قد تغير المزاج أو الشعور بالألم بالقدر الكافي لتشجيع السلوكيات الأكثر تعزيزا للصحة». عمل العقاقير يؤكد باحثون أنه من الممكن أن تعمل الأدوية الوهمية عمل العقاقير، ومن الممكن أيضا أن يعمل تأثير الدواء الوهمي على جعل العقاقير أكثر فعالية. وتبين الأبحاث أن عددا من المكونات الداخلة في تأثير الدواء الوهمي - على سبيل المثال المعدات الطبية والرعاية والحبوب والحقن والعلاقة بين المريض ومقدم العلاج - يمكن إضافتها وزيادتها تدريجيا بطريقة مشابهة للاعتماد على الجرعة (كلما زادت الجرعة كان التأثير أعظم). والواقع أن هذه المكونات أثبتت قدرتها على تعزيز فعالية عدد من العلاجات القوية. فعلى سبيل المثال، عندما يقدم المورفين للمريض عن طريق الحقن في مرأى ومسمع من المريض فإن تأثيره يكون أقوى بدرجة كبيرة مما لو تم تقديمه له عبر أنبوب وريدي دون علمه. تفسير علم الأعصاب يبدو أن قوة الخيال تستند في واقع الأمر إلى أساس في علم الأعصاب. فتبين أدلة حديثة أنه عندما تخلف الأدوية الوهمية تأثيرات نافعة للصحة فإنها تسلك نفس المسارات العصبية التي تسلكها الأدوية الفعّالة. وعلى سبيل المثال، عندما يشعر المريض بتراجع وانخفاض الألم بسبب الدواء الوهمي، فإن الدماغ يطلق مواد أفيونية ذاتية ومادة الCB1 الشبيهة بالكانابيديول، وهي نفس الآليات التي تتدخل لتخفيف الآلام باستخدام العلاجات الدوائية. وعلى نحو مماثل، تشير دراسات تصوير الأعصاب إلى أن العلاج بالأدوية الوهمية يعمل على تنشيط هياكل محددة في الدماغ مثل قشرة الفص الجبهي والقشرة الحزامية الأمامية المنقارية. كما أظهرت التجارب التي أجريت على المرضى الذين يعانون من مرض باركنسون أن العلاج بالأدوية الوهمية يطلق مادة الدوبامين الذاتية في منطقة الجسم المخطط من الدماغ. وعلاوة على ذلك، تشير بحوث تجريبية مثيرة للاهتمام إلى أن بعض العوامل الجينية (الوراثية) ربما تهيئ المرء ليكون أكثر استجابة للدواء الوهمي. تراجع الاعتقاد عندما بدأ الباحثون في التحقق بدقة في التجارب السريرية لمسكنات الألم، اكتشفوا أنه في عام 1996، كان ما متوسطه 27% من المرضى يعتقدون أن الدواء الجديد كان فعالا في تقليل آلامهم مقارنة بالدواء الوهمي، وبحلول عام 2013، انخفض هذا الرقم إلى 9%. واكتشف جيفري موجيل باحث دراسات الألم في جامعة ماكجيل وباحثون آخرون هذه الظاهرة، وأوضح قائلا «إن ما سبق لا يعني أن أدويتنا أصبحت غير فعالة، ولكن تأثير الدواء الوهمي أصبح أقوى وأقوى بمرور الوقت». ومع ذلك، حدثت هذه الظاهرة فقط في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهذه الظاهرة لم تزد المشاكل حدة فقط في أمر مسكنات الألم، ولكن ازداد تأثير الدواء الوهمي أيضًا في الدراسات عن مضادات الاكتئاب والعلاج النفسي. وقال موجيل «إن تأثير الدواء الوهمي هو أكثر الظواهر إثارة في جميع المجالات الأكاديمية» و«إن الدواء الوهمي الآن على الخط الفاصل بين علم الأحياء وعلم النفس»، ويهيمن عليه عدد من الأشياء المتعلقة بالطب، من جميع أنواع إعلانات الأدوية التي نراها إلى التجارب السريرية، وأي تواصل بيننا وبين مقدمي الخدمات الطبية سيؤثر عليه. لقد ظل العلماء يدرسون تلك النقطة الفاصلة المعقدة بالتفصيل منذ أكثر من 15 عاما، واكتشفوا أن أقراص السكر المستخدمة كلقاح للأطفال أكثر روعة وفائدة مما كنا نعتقد في الماضي. فمن خلال علم الدواء الوهمي الجديد، استطعنا أن نفهم بشكل أفضل كيفية مساعدة العلاجات البديلة مثل الوخز بالإبر والريكي لبعض الناس. علاوة على ذلك، سيسمح لنا الدواء الوهمي بتقليل جرعة مسكنات الألم يوما ما في المستقبل، وبالتالي حل أزمة الأفيون التي تجتاح الولاياتالمتحدة حاليا. الإيمان والدواء في الوقت الحاضر، يعد الدواء الوهمي (بلاسيبو) بمثابة أقراص السكر، والذي يعني باللاتينية «أريد أن أكون سعيدًا»، فلم يعد مجرد «كذبة صادقة». قال لي تيد كابتشوك - الخبير المعروف في أبحاث الدواء الوهمي في العالم من جامعة هارفارد - في مقابلة، إن دراسة تأثير الدواء الوهمي هي بمثابة «العثور على شيء لم نلاحظه عادةً في الأدوية»، وغالبًا ما ننسى هذه التأثيرات غير المرئية بسبب الأدوية الفعالة واتخاذ الخطوات لاستخدامها. وتأثير الدواء الوهمي هو بديل لجميع الأشياء الأخرى المتعلقة بالدواء مثل الطقوس والرموز والتواصل بين الأطباء والمرضى. وقال فرانكلين ميللر -عالِم الأخلاقيات البيولوجية المتقاعد في المعاهد الصحية الوطنية الأمريكية والذي قام بتحرير قدر من المعلومات حول الدواء الوهمي- إن «تأثير الدواء الوهمي هو مجموعة من الظواهر المختلفة، لكننا استخدمنا فقط الدواء الوهمي ككلمة واحدة فقط، فعاجلاً أم آجلاً سنتخلى عن الاسم» وبعد ذلك، أشار بوضوح إلى كل مكون من مكونات الدواء الوهمي. إن عائلة تأثيرات الدواء الوهمي ضخمة ومتفرعة، حيث تبدأ من الصغير يتمثل في المعرفة العامة إلى الكبير ويتمثل في المشكلة، وجميعها مرتبطة بتأثير الدواء الوهمي، ومنها: 1 - الانحدار إلى المتوسط: الانحدار إلى المتوسط يعني أنه إذا كانت نتيجة الاختبار الأول أكثر حدة، فستكون نتيجة الاختبار الثاني أقرب إلى المتوسط. فعندما يشرع الناس في زيارة الطبيب أو إجراء تجربة سريرية، فإن أعراضهم قد تكون بالفعل سيئة للغاية (وإلا لماذا يريدون المساعدة الطبية من كل مكان؟)، ولكن في الحالة العامة للمرض، ستتحسن الأعراض من تلقاء نفسها. على سبيل المثال، أثناء التجارب السريرية المتعددة لمرض الاكتئاب، اكتشف الباحثون أن حوالي ثلث المرضى قد تماثلوا الشفاء بأنفسهم دون تناول أي أدوية أو تناول دواء وهمي حتى. وبعبارة أخرى، الوقت نفسه هو دواء وهمي لديه قدرة علاجية، حيث يمكن لأقراص السكر والأدوية المنشطة تغيير إحساس المرضى تجاه أعراضهم. 2 - التحيز للتأكيد: يشير التحيز للتأكيد إلى أننا عندما ندعم ذاتيًا وجهة نظر معينة، فإننا نميل إلى البحث عن أدلة يمكن أن تدعم وجهة نظرنا الأصلية. حيث يأمل المرضى في التحسن عندما يتم علاجهم، لذلك سيغيرون تركيزهم. أي سيولون مزيدا من الاهتمام للأعراض التي تتحسن، ويتجاهلون علامات المضاعفات الناتجة عن تدهور الحالة المرضية. ولكن كما قلنا سابقًا، فإن تأثير الدواء الوهمي هو أكثر بكثير من مجرد تحيز. 3 - التوقعات والتعلم: يكمن تأثير الدواء الوهمي من خلال العلاقة السببية. فعند تناول الأدوية الفعالة، نشعر عادةً بتحسن كبير، لذلك عندما نتناول الدواء الوهمي، سنتذكر ونعيد إنشاء هذه الذاكرة. وقد أجرت لوانا كولوكا -جرّاحة وباحثة في جامعة ماريلاند- سلسلة من الدراسات حول التأثيرات المذكورة أعلاه. حيث استخدمت في هذه الدراسات عمومًا مثل هذه الطريقة: فهي عادة ما تقوم بتوصيل الشخص بجهاز التحفيز الكهربائي، ثم تعطيه التحفيز الكهربائي. بالنسبة للتحفيز الكهربائي القوي الذي يسبب الألم، فتعطي إشارة بالضوء الأحمر على الشاشة للشخص المشارك في نفس الوقت، بينما التحفيز الكهربائي الضعيف، فسيرى الشخص إشارة بالضوء الأخضر. في نهاية التجربة، عندما يرى الشخص الضوء الأخضر، حتى لو وصلت عتبة التحفيز الكهربائي لأعلى نقطة، فلن يشعر إلا بألم طفيف. 679 طبيب باطنة والتهاب مفاصل يشاركون في دراسة %57 منهم صرفوا العلاج الوهمي بشكل منتظم %62 يعتقدون أن هذه الممارسة مسموح بها أخلاقيا %3 استخدموا الملح كعلاج وهمي %2 استخدموا حبوب السكاكر كعلاج وهمي %41 استخدموا الأدوية اللاوصفية كالمسكنات كعلاج وهمي %38 وصفوا الفيتامينات كعلاج وهمي %13 استخدموا المضادات الحيوية والمهدئات كعلاج وهمي %5 فقط من الأطباء صارحوا مرضاهم بوهم الدواء