أغلى ذكرياتي هي أيام الثورة الوطنية، ثورة 1919، إذ تمتزج فيها النشوة والبهجة بمشاعر الزهو والفخار، والحزن أيضا!. كنت صغيرا دون العاشرة، وكنت قد سمعت عن أن «الأمة»، التي لم أكن أدرك معناها، تجمع توكيلات ممهورة بتوقيعات الناس، مئات الألوف من الناس، لتأكيد أن الوفد المصري يحمل الصلاحية لتمثيل البلاد في مؤتمر الصلح. كان هذا هو حديث كل البيوت، وأمام كل الدكاكين، وفي كل المقاهي. جاء والدي يحمل أوراقا عليها توقيعات كثيرة، آخرها هو توقيعه، وقال لي: امض (أي وقع باسمك). كنت في الكتّاب أيامها، ولكني لم أكن قد أتقنت كتابة اسمي. تركني أبي قليلا، ثم نادى والدتي، وسألها إن كانت تريد أن «تبصم»، وسألتها: على أي شيء ستختم؟، فقالت: على توكيل سعد زغلول، وبصمت بنفسها. وقال أبي: كل من يستطيع يأخذ نسخة من التوكيل، ويجمع عليها توقيعات أهل شارعه أو حارته أو جيرانه. وبعد أمي، جلست أكتب اسمي، ولم أكن قد تمكنت من «رسمه» بعد، جربت مرارا في ورقة أخرى، ولكن ظل اسم «إبراهيم»، وهو اسم جدي، مشكلة، وأخيرا وقعت دون «إبراهيم»، وذهبت أمي بالتوكيل، وعادت وقد بصمت كل سيدات الحي. لهذه الأم «الأمية» دور أساسي في تعليمي، حكاياتها الأولى المليئة بالألغاز والأسرار والأشواق والأسئلة، وحكايات صديقاتها من سيدات الجيران، كانت أول طريقي إلى المعرفة، فقد كانت تصحبني لزياراتهن، إذ أنا صبي صغير وحيد، بعد أن تزوج الأشقاء والشقيقات. زاد على هذا بعد ذلك أن أمي سُحِرت بدار العاديات (دار الآثار المصرية)، فقد حدث أن صحبنا أبي إلى دار العاديات مرة، ربما يكون قد سمع من أحد «الأفندية» أو قرأ في جريدة ما شيئا عن أهمية زيارة المتاحف، فأخذنا إلى المتحف المصري، ومن يومها وأمي تحب المتاحف، وبالتالي أحببتها أنا أيضا، بعد أن كانت تصطحبني إلى هناك. كنا نركب «سوارس» من الجمالية إلى ميدان الإسماعيلية (التحرير الآن)، و«سوارس» هذه كانت عربة كبيرة يجرها بغلان، مجهزة للنقل العام بدلا من الباصات الآن، وحين نصل نقطع التذاكر، وندخل دار الآثار. ربما كانت أمي تعتقد أن المومياوات هي لمساخيط (أو لمخلوقات آدمية سخطها الله على هذا الوضع)، ولكنها كانت تحب أن تتفرج على التماثيل وقطع الأثاث والتحف والحلي والجواهر والرسوم. ولعلي تشربت منها هذا الحب، والتعلق بآثار مصر القديمة، وإن كنت في ذلك الوقت في غير الوضع ولا في السن التي تسمح لى بأن أشرح لها شيئا. كنت أتفرج مثلها، وتستقر في ذاكرتي صور وأشياء ومعان اكتشفت دلالاتها بعد ذلك، واكتشفت أمي بنفسها المتحف الإسلامي والمتحف القبطي، ومساجد حي القلعة الكثيرة، فصحبتني إلى كل هذه الأماكن، ليحدث معها ومعي الشيء نفسه. لم تكن تستطيع أن تقرأ المذكرات التوضيحية الموضوعة على كل قطعة، وما كان بوسعي أن أفهم معاني كل ما أقرؤه من هذه البطاقات أو المذكرات التوضيحية، ولكني أتذكر الآن أن آلافا من الصور والمعاني استقرت من أيامها في أعماق الوجدان، لتكون رصيدا كبيرا من المعرفة والمشاعر والأفكار، ولا يزال منظرها - منظر أمي - يدهشني حين أتذكرها وهي تقرأ «الفاتحة» للمساخيط، أي لمومياوات الفراعنة!. أما اكتشاف المعاني الأولى للوطنية والقومية وجمال الأدب، وامتزاج الإحساس العربي بالوطنية والأدب - بوصفه جمالا ولغة قومية في وقت واحد - أما الاكتشاف الأولي لكل تلك المعاني، فكان من تأثير «الشيخ عجاج»، مدرس اللغة العربية في مدرستنا الابتدائية. كان صعيديا وصاحب شخصية طريفة، ففي ساعات «الفسحة» كان يلعب لعبة التحطيب (المبارزة بالعصي) مع مدرس الألعاب، ولكن شغفه الأكبر هو تحويل دروس «العربي» إلى دروس في الحركة القومية، حيث كان يحكي عن الحركة القومية فيحولها إلى أساطير، وصور أدبية ودينية، فتتحول دروس اللغة والأدب إلى دروس في التربية الوطنية والدينية واللغوية، وإلى إثارة مشاعر وقيم الفتوة والشجاعة، قصائد الشعر المقررة كانت قصائد عادية، يختارها موظفون، ولكنه كان يتحرر منها، ويسمعنا من مختاراته هو، ومن محفوظاته أبياتا من أجمل الشعر. كثيرا ما سألته: من أين هذا الشعر الحلو، البعيد عن جمود ما يحتويه الكتاب المقرر؟. من «الشيخ عجاج» عرفت أسماء الكتب التراثية الكبرى وعيونها لأول مرة، وعرفت أسماء فحول الشعراء. وما زلت أذكر دهشة باعة الكتب في الأزهر وأنا أسأل عن «الكامل للمبرد»، أو غيره من كتب التراث الأدبي، لأشتري أجزاءها، كأنهم يقولون: ليست هذه الكتب لمثل هذا الولد!. ومع ذلك، فإن «الشيخ عجاج» لم يتحول - بمفرده - إلى إحدى شخصياتي، ربما لأنه - وحده - لا يصلح نموذجا فنيا، فالأنموذج لا بد أن يولد إحساسا بأنه واقعي، ونمطي، ودارج، أما «الشيخ عجاج» فلم يكن نمطيا ولا دارجا، كان شخصية استثنائية بوطنيته العنيفة، وإحساسه بالحياة والأدب، وتفانيه الكامل. 1983* * كاتب ورائي مصري «1911 – 2006»