عبدالعزيز بن سعود يرأس الاجتماع السنوي ال 32 لأصحاب السمو أمراء المناطق    أمانة حائل تطلق فعالية "بسطة خير السعودية" ضمن موسم رمضان    محافظ الأحساء يرعى ختام أنشطة جمعية "قبس"    الأندية الثمانية بين الطموح والآمال في جدة    الشهري مدرباً للاتفاق حتى 2027    بتوجيه الملك وبناء على ما عرضه ولي العهد.. صرف أكثر من ثلاثة مليارات ريال معونة رمضان لمستفيدي الضمان الاجتماعي    الشيخ سعد بن مريع أبودبيل يتبرع لجمعية آباء لرعاية الأيتام بمحافظة أحد رفيدة    بوتين وترمب يبحثان اليوم هاتفياً إنهاء حرب أوكرانيا    الأخضر يواصل تحضيراته    إرث عمراني وثقافي    من شارع الأعشى إلى بوسطن الأمريكية    تكفينا جنة الأعرابي    لن يكون الإسلام صحيحا حتى يكون نظيفا    تحركات لتفعيل المقترح المصري    بسبب الحوثي إيران تحت التهديد الأمريكي    محادثات مرتقبة في الصراع الأوكراني وسط مخاوف أوروبية    "البديوي": إعادة إعمار سوريا واستقرارها ضرورة إنسانية وأمنية للمنطقة بأسرها    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق تداولاتها على ارتفاع    بداية من الأربعاء أمطار رعدية على معظم المناطق    78 مليونا لمستفيدي صندوق النفقة    غلفها بزيادة لتعزيز سلامة الغذاء والصحة العامة    الموافقة على صرف أكثر من ثلاثة مليارات ريال معونة رمضان لمستفيدي الضمان    60 ألف غرفة فندقية مرخصة بالمدينة المنورة    الأربعاء.. الأهلي يواجه القادسية في نهائي كأس السيدات    هدف لاعب الرياض "إبراهيم بايش" في شباك الاتحاد الأجمل في "جولة العلم"    تطبيق العِمَارَة السعودية على رخص البناء الجديدة    الموهبة رائد عسيري: الصدفة قادتني إلى النجومية    أمسية شعرية ضمن أهلا رمضان    5 أحياء تستقطب زوار جدة والإيجار اليومي نار    العتودي مساعدًا لرئيس بلدية بيش    8 خدمات نوعية للقطاع الوقفي    مسجد "عِتبان بن مالك الأنصاري" مَعْلمٌ تاريخي يرتبط بالسيرة النبوية في المدينة المنورة    تتبع وإعادة تدوير لوقف هدر الأدوية    صقور نجد يتوج بكأس بطولة الوسطى للهوكي ويحصد الميداليات الذهبية    الأخضر يركز على الاستحواذ    إقبال على فحوصات صم بصحة في نجران    إرشادات لمرضى الربو خلال رمضان    الحوثيون يستهدفون حاملة طائرات أميركية للمرة الثانية    مُحافظ وادي الدواسر يكرم 280 حافظاً وخاتماً للقرآن    وكالة الطاقة الدولية.. تهدد أمن الطاقة    العلم الذي لا يُنَكّس    الاقتصاد السعودي يحقق أهدافه    جمعية الدعوة بأجياد تطلق مسابقة "الحفيظ " لحفظ السنة النبوية في رمضان    أمين القصيم يزور "بسطة خير السعودية" ويشيد بجهود المشاركين    مواجعات صعبة للاندية السعودية في ربع نهائي دوري أبطال آسيا للنخبة    18 ألف مستفيد من مركز الزامل للعيون بمستشفى الملك سعود بعنيزة في 2024    تجمع القصيم الصحي ينظم 16 فعالية للمشي    وكيل وزارة الداخلية لشؤون الأفواج الأمنية يتفقّد قوات الأفواج بمنطقة نجران    ولي العهد السعودي يطلق خريطة «العِمَارَة السعودية» ب19 طرازاً    80 % من سكان القطاع لا يملكون الغذاء.. والسلطة الفلسطينية تحذر.. جيش الاحتلال يخطط لحكم غزة عسكريا    34 قتيلًا وجريحًا.. حصيلة انفجار اللاذقية.. الضباط «المنشقون» ركيزة الجيش السوري الجديد    موجز    أمانة تبوك تتيح تقديم ترخيص الخدمات المنزلية عبر منصة بلدي    طويق جازان في مبادرة إفطار مرابط بالحد الجنوبي    وفاة الأميرة نورة بنت بندر آل سعود    إطلاق 16 كائنًا فطريًا في محميات العلا    نائب أمير منطقة مكة يستقبل رئيس المحكمة الجزائية بجدة    فرع هيئة الصحفيين بجازان يحتفي بيوم العلم السعودي بالتعاون مع فندق جازان ان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تعلمت الوطنية من أمي
نشر في الوطن يوم 20 - 05 - 2021

أغلى ذكرياتي هي أيام الثورة الوطنية، ثورة 1919، إذ تمتزج فيها النشوة والبهجة بمشاعر الزهو والفخار، والحزن أيضا!.
كنت صغيرا دون العاشرة، وكنت قد سمعت عن أن «الأمة»، التي لم أكن أدرك معناها، تجمع توكيلات ممهورة بتوقيعات الناس، مئات الألوف من الناس، لتأكيد أن الوفد المصري يحمل الصلاحية لتمثيل البلاد في مؤتمر الصلح.
كان هذا هو حديث كل البيوت، وأمام كل الدكاكين، وفي كل المقاهي. جاء والدي يحمل أوراقا عليها توقيعات كثيرة، آخرها هو توقيعه، وقال لي: امض (أي وقع باسمك). كنت في الكتّاب أيامها، ولكني لم أكن قد أتقنت كتابة اسمي. تركني أبي قليلا، ثم نادى والدتي، وسألها إن كانت تريد أن «تبصم»، وسألتها: على أي شيء ستختم؟، فقالت: على توكيل سعد زغلول، وبصمت بنفسها.
وقال أبي: كل من يستطيع يأخذ نسخة من التوكيل، ويجمع عليها توقيعات أهل شارعه أو حارته أو جيرانه.
وبعد أمي، جلست أكتب اسمي، ولم أكن قد تمكنت من «رسمه» بعد، جربت مرارا في ورقة أخرى، ولكن ظل اسم «إبراهيم»، وهو اسم جدي، مشكلة، وأخيرا وقعت دون «إبراهيم»، وذهبت أمي بالتوكيل، وعادت وقد بصمت كل سيدات الحي.
لهذه الأم «الأمية» دور أساسي في تعليمي، حكاياتها الأولى المليئة بالألغاز والأسرار والأشواق والأسئلة، وحكايات صديقاتها من سيدات الجيران، كانت أول طريقي إلى المعرفة، فقد كانت تصحبني لزياراتهن، إذ أنا صبي صغير وحيد، بعد أن تزوج الأشقاء والشقيقات. زاد على هذا بعد ذلك أن أمي سُحِرت بدار العاديات (دار الآثار المصرية)، فقد حدث أن صحبنا أبي إلى دار العاديات مرة، ربما يكون قد سمع من أحد «الأفندية» أو قرأ في جريدة ما شيئا عن أهمية زيارة المتاحف، فأخذنا إلى المتحف المصري، ومن يومها وأمي تحب المتاحف، وبالتالي أحببتها أنا أيضا، بعد أن كانت تصطحبني إلى هناك.
كنا نركب «سوارس» من الجمالية إلى ميدان الإسماعيلية (التحرير الآن)، و«سوارس» هذه كانت عربة كبيرة يجرها بغلان، مجهزة للنقل العام بدلا من الباصات الآن، وحين نصل نقطع التذاكر، وندخل دار الآثار. ربما كانت أمي تعتقد أن المومياوات هي لمساخيط (أو لمخلوقات آدمية سخطها الله على هذا الوضع)، ولكنها كانت تحب أن تتفرج على التماثيل وقطع الأثاث والتحف والحلي والجواهر والرسوم. ولعلي تشربت منها هذا الحب، والتعلق بآثار مصر القديمة، وإن كنت في ذلك الوقت في غير الوضع ولا في السن التي تسمح لى بأن أشرح لها شيئا. كنت أتفرج مثلها، وتستقر في ذاكرتي صور وأشياء ومعان اكتشفت دلالاتها بعد ذلك، واكتشفت أمي بنفسها المتحف الإسلامي والمتحف القبطي، ومساجد حي القلعة الكثيرة، فصحبتني إلى كل هذه الأماكن، ليحدث معها ومعي الشيء نفسه. لم تكن تستطيع أن تقرأ المذكرات التوضيحية الموضوعة على كل قطعة، وما كان بوسعي أن أفهم معاني كل ما أقرؤه من هذه البطاقات أو المذكرات التوضيحية، ولكني أتذكر الآن أن آلافا من الصور والمعاني استقرت من أيامها في أعماق الوجدان، لتكون رصيدا كبيرا من المعرفة والمشاعر والأفكار، ولا يزال منظرها - منظر أمي - يدهشني حين أتذكرها وهي تقرأ «الفاتحة» للمساخيط، أي لمومياوات الفراعنة!. أما اكتشاف المعاني الأولى للوطنية والقومية وجمال الأدب، وامتزاج الإحساس العربي بالوطنية والأدب - بوصفه جمالا ولغة قومية في وقت واحد - أما الاكتشاف الأولي لكل تلك المعاني، فكان من تأثير «الشيخ عجاج»، مدرس اللغة العربية في مدرستنا الابتدائية.
كان صعيديا وصاحب شخصية طريفة، ففي ساعات «الفسحة» كان يلعب لعبة التحطيب (المبارزة بالعصي) مع مدرس الألعاب، ولكن شغفه الأكبر هو تحويل دروس «العربي» إلى دروس في الحركة القومية، حيث كان يحكي عن الحركة القومية فيحولها إلى أساطير، وصور أدبية ودينية، فتتحول دروس اللغة والأدب إلى دروس في التربية الوطنية والدينية واللغوية، وإلى إثارة مشاعر وقيم الفتوة والشجاعة، قصائد الشعر المقررة كانت قصائد عادية، يختارها موظفون، ولكنه كان يتحرر منها، ويسمعنا من مختاراته هو، ومن محفوظاته أبياتا من أجمل الشعر. كثيرا ما سألته: من أين هذا الشعر الحلو، البعيد عن جمود ما يحتويه الكتاب المقرر؟.
من «الشيخ عجاج» عرفت أسماء الكتب التراثية الكبرى وعيونها لأول مرة، وعرفت أسماء فحول الشعراء. وما زلت أذكر دهشة باعة الكتب في الأزهر وأنا أسأل عن «الكامل للمبرد»، أو غيره من كتب التراث الأدبي، لأشتري أجزاءها، كأنهم يقولون: ليست هذه الكتب لمثل هذا الولد!.
ومع ذلك، فإن «الشيخ عجاج» لم يتحول - بمفرده - إلى إحدى شخصياتي، ربما لأنه - وحده - لا يصلح نموذجا فنيا، فالأنموذج لا بد أن يولد إحساسا بأنه واقعي، ونمطي، ودارج، أما «الشيخ عجاج» فلم يكن نمطيا ولا دارجا، كان شخصية استثنائية بوطنيته العنيفة، وإحساسه بالحياة والأدب، وتفانيه الكامل.
1983*
* كاتب ورائي مصري «1911 – 2006»


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.