أحيانا يظهر الشر في صورة الخير، ويتزيا المجرمون في سيما الصالحين، ويختلط الأمر على كثير من الناس وتراوغ الصورة عيون المشاهدين. وحينها يقال لتجار المخدرات «حزب الله»، ويقال للصوص الذين أفسدوا في الأرض «أنصار الله»، ويقال للفاسدين «الأطهار»، ويصرخ الظالمون صرخة المظلومين، ويدعي من يسهل تنفيذ المؤامرة أنه يقف ضدها، ويصبح من يظن أنه يقاتل قوى الاستكبار أداة تلك القوى، ومن يزعم الدفاع عن المسلمين يقتلهم، ومن يرفع شعار «الوحدة الإسلامية» هو من يثير حروب السنة والشيعة، وفي زمن الفتنة يزعم من تسبب في ضياع السيادة أنه يدافع عنها، ويظهر «المعتدي المهاجم» بمظهر «المدافع الذي يصد العدوان»، ويبدو من يقاتل لأجل السلطة في عيون من يخدعهم مقاتلا في سبيل الوطن، ويصبح أصحاب السوابق وخريجو السجون وقطاع الطرق «أولياء الله». وللمزيد من المفارقات الغريبة والعجيبة أن الذي يزعم أن الله أمر بتولي «قائد ثورته» يجرؤ على القول، إنه يسعى لبناء دولة مدنية، وإن من يطرح مثل هذا الطرح يمتلك الجرأة للقول بأن جماعته الدينية تسعى لبناء دولة ديمقراطية، مع أنه قد قضى على أي تفكير ديمقراطي بمجرد القول إن «الله أمر بتولي زعيم جماعته»، إذ كيف يمكن للمنافسة السياسية والتعددية الديمقراطية أن تكون بين متنافسين سياسيين أحدهم «أمر الله بتوليه»! هذا النموذج للمتناقضات يمكن بكل سهولة ملاحظته في الخطاب السياسي والإعلامي لما يسمى ب«محور المقاومة»، وهو محور طهران ووكلائها في المنطقة. ونتيجة لهذه التناقضات التي تظهر على النموذج الإيراني، ونتيجة لقلة مراكز الأبحاث المهتمة بالشؤون الإيرانية، يبدو فهم السياسات الإيرانية مشوشا لدى كثيرين لا يفهمون كيف يمكن لدولة تقول إنها تسعى ل«الوحدة الإسلامية»، ثم تكون عاملا مهما في الحروب والفتن والانقسامات الطائفية في العالم الإسلامي؟! والواقع أن النموذج الإيراني المطبق في إيران، والنسخ الكربونية الفرعية لهذا النموذج في عدد من البلدان العربية ليس غامضاً إلا على من لا يدرك ازدواجية أدوات وخطابات هذا النموذج، القائمة أصلا على ازدواجية الأهداف والمصالح والسلطات. ولعل من الأسباب الرئيسية لهذا التناقض داخل النموذج الإيراني- إن لم يكن ذلك هو السبب الرئيس- أن إيران ينتابها شعور ممض ب«الأقلية» من جهة في مقابل رغبة جامحة بالتحول إلى «أغلبية». وبين الشعور الممض والرغبة الجامحة يبدو الخطاب الإيراني للمراقبين متناقضا تناقض من يشعر بقيوده الجيوسياسية والمذهبية في مقابل طموحاته القومية وقورته «العالمية» المبالغ في قدراتها. ومن هنا يمكن فهم بعض اللامنطق في السياسات الإيرانية، وبعض الازدواجية في الخطاب الإيراني، بل وبعض ما يطرأ على السطح مما يبدو تداخلا في الصلاحيات في عمل السلطات الدينية والسياسية في طهران. ولعل التسريب الأخير لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف يسلط الضوء على تلك التناقضات الظاهرية في السياسة الإيرانية، تلك التناقضات التي فسرها التسريب بوجود سلطة دينية فعلية في يد رجل دين غير منتخب هو المرشد الإيراني الأعلى وفريقه، وأخرى سياسية شكلية في يد رئيس منتخب هو الرئيس الإيراني وفريقه، وهذا النموذج هو الذي تحاول طهران تعميمه على دول المنطقة عن طريق بناء ميليشيات دينية موالية للمرشد الأعلى، وتكون لها السلطة الفعلية دون أن تتحمل المسؤولية في البلدان التي تتدخل فيها طهران، في مقابل سلطة منتخبة شكلية تتحمل المسؤولية ولكن لا سلطة لها، وبذا تضمن طهران كعكة السلطة لوكلائها، فيما يتحمل خصوم هؤلاء الوكلاء المسؤولية الخدماتية أم الناس. نجح هذا النموذج إلى حد ما في لبنان ويراد له أن ينجح في العراق وسوريا واليمن، وهو بالطبع وصفة لإدامة الصراع في مجتمعاتنا العربية، إذ لن تهدأ تلك البلدان إلا إذا تخلصت من تلك الوصفة الإيرانية، وأصبحت السلطة الفعلية في يد من يتحمل المسؤولية الحقيقية، أما بقاء السلطة في يد الميليشيا الموالية لإيران وبقاء المسؤولية على كاهل الدولة التي لا سلطة حقيقية لها، فهذا لن يساعد على إحلال السلام والاستقرار في تلك المنطقة الملتهبة، التي يبدو أن طهران تريد لها الاستمرار على ما هي عليه لصالح مشروع إيران القومي المتدثر بعباءة الإسلام والتشيع.