عرف الناس أم كلثوم وأنا عرفت أم كلثوم الأخرى، عرفوا الأسطورة وعرفت الإنسانة ! عرفوها بخيلة وعرفتها كريمة، عرفوها فوق المسرح والأضواء مسلطة عليها وصوتها يملأ الدنيا متعة وهناء، وعرفتها في غرفتها الصغيرة في الطابق العلوي من بيتها، منزوية فوق كنبة صغيرة تبكي في صمت ! وتحدثت الدنيا كلها عن جريمة هدم فيلا أم كلثوم في الزمالك وأصبحت ألسنة الناس مشانق يعلق فيها ورثة أم كلثوم العاقون الذين باعوا فيلا أم كلثوم الخالدة! وقد يذهل الناس إذا عرفوا اليوم أن أم كلثوم لم تعتبر فيلتها هذه أثرا تاريخيا يجب أن تحافظ عليه الأجيال القادمة، بل الذي حدث أنها أخبرتني أنها تريد هدم هذه الفيلا وبناء عمارة من عدة طوابق. وبدأت أم كلثوم تبحث فعلا عن شقة تقيم فيها، واختارت أن تقيم في شقة في الزمالك تملكها ابنة عبدالفتاح يحيى باشا رئيس الوزراء السابق، وبدأت مفاوضات استئجارها، وفجأة قامت ثورة 23 يوليو، وبعد فترة قليلة ذاعت شائعات أن الثورة تفكر في تأميم العمارات وعندئذ عدلت أم كلثوم عن هذا المشروع! .أما البيت الذي كانت أم كلثوم تشعر أنه بيت تاريخي شهد كفاحها الأول فهو بيت صغير مبنى بالطوب النيئ، له عدة أبواب تطل على حوش، وكان وراء كل باب حجرة صغيرة طولها 3 أمتار وعرضها متران، وفي واحدة من هذه الغرف ولدت أم كلثوم وعاشت مع أبيها الشيخ إبراهيم وأمها فاطمة وأخيها خالد وأختها سيدة! وفي هذه الغرفة عاشت أم كلثوم وكبرت وتعلمت الغناء، ومنها طافت كل قرى مصر فوق ظهر حمار تغني في الأفراح وتنشد الأناشيد في الموالد والأعياد، ومن هذه الغرفة الصغيرة انطلقت إلى القاهرة بعد أن ذاع صيتها في كل قرى مصر في الوجه البحري والصعيد! ولهذا فإن أم كلثوم كانت تعتز بهذه الحجرة وبأرضها التي نامت عليها قبل أن تغتني وتشتري المرتبة الأولى في حياتها. وكانت مصر كلها تقول: إن أم كلثوم بخيلة شحيحة في الوقت الذي كانت تدفع في الخفاء مرتبات شهرية لعشرات الأسر، وتعتبر هذا سرا من الأسرار الحربية التي لا يجوز إفشاؤها لأقرب المقربين لها، وكم من مهندسين وأطباء وقضاة ساعدتهم حتى وصلوا إلى مناصب مرموقة. وحدث مرة أن جاءني أحد أفراد فرقة أم كلثوم وقال لي: - أنا أعرف أنك صديق لأم كلثوم هل يرضيك أن أذهب إليها صباح اليوم وأقول لها إنني أريد أن أقترض منها 5 جنيهات لأن ليس في بيتي قرشا واحدا لإطعام زوجتي وأولادي، وإذا بأم كلثوم ترفض أن تقرضني الخمسة جنيهات مع أنني أعمل في فرقتها منذ 15 سنة! وهالني موقف أم كلثوم المخزي واستنكرته وبعد خروج الموسيقي طلبتها في رقم تليفونها وكان 808080 وسألتها: - هل صحيح أنك رفضت أن تقرضي فلانا 5 جنيهات؟ قالت: نعم رفضت. قلت: وهل فعلت ذلك بعد أن قال لك أن ليس في بيته قرش واحد؟! قالت: نعم سألتها معاتبا: كيف تفعلين هذا يا أم كلثوم؟ قالت: لأنني امرأة بخيلة! قلت: أنا أعرف العكس وأعرف أن أهم صفاتك الوفاء لمن عملوا معك! قالت: أنت لا تعرفني.. قلت: بل أعرفك تماما.. وضحكت أم كلثوم وقالت: سأقول لك الحقيقة بشرط ألا تقولها لمخلوق، إن مصلحتي أن يقول الناس عني إنني بخيلة حتى يبتعد عني النصابون والأفاقون، إنني علمت أن هذا الموسيقي كان يسهر في بيت الموسيقار فريد الأطرش، أمس، وخسر على مائدة القمار 300 جنيه فأردت أن أؤدبه ليعرف ذل لعب القمار، ورفضت أن أعطيه الخمسة جنيهات، وبعد خروجه اتصلت بزوجته تليفونيا وأخبرتها بأنني سأرسل لها مع سائقي خمسين جنيها بشرط ألا تخبر زوجها، وتتركه يدوخ ويتعذب ويشحذ حتى يعرف مرارة عقاب لاعب القمار! وكان الموسيقي يحكي لكل من يقابله قصة بخل أم كلثوم، وأم كلثوم فرحة وسعيدة بانتشار قصة بخلها حتى أن بعض الناس أطلق عليها «أم إسرائيل لا أم كلثوم»، وكانت إذا سمعت عن فنانة مريضة أسرعت إليها ونقلتها إلى المستشفى ودفعت مصاريف علاجها وحذرتها أن تفتح فمها وتقول لإنسان ما فعلت، وأنذرتها بأنها إذا تكلمت فإنها ستقاطعها إلى الأبد! وسكتت من تعلم وتكلمت من لم تعلم، وكانت أم كلثوم تقول: إن الذين يتحدثون عن بخلي يدافعون عني، يبنون حولي سورا عاليا يصد النصابين والأفاقين والطامعين! وكان أسعد يوم في حياتها يوم أنعم عليها الملك فاروق بنيشان الكمال. فقد كان النادي الأهلي بالجزيرة يقيم حفلة في حديقة تغني فيها أم كلثوم، وفوجئنا أثناء الحفلة بالملك فاروق يدخل الحفلة، ويجلس على المائدة التي كان فيها أحمد حسنين باشا رئيس النادي، وكنت في ذلك الوقت عضوا في مجلس إدارته، وغنت أم كلثوم أغنية هلت ليالي القمر، ولما انتهت الأغنية ناداني الملك وطلب مني أن أصعد إلى المسرح وأعلن أن الملك أنعم على أم كلثوم بوسام الكمال، وكانت الإذاعة تذيع الحفلة فسمع النبأ سكان مصر وسكان البلاد العربية، وكانت أم كلثوم سعيدة بهذا الوسام فقد كانت أول مرة في مصر ينعم فيها على فنان برتبة أو نيشان. وبقدر سعادة الشعب بهذا الوسام فقد كانت تعاسة الأميرات وزوجات رؤساء الوزراء بأن ينعم الملك بوسام الكمال على مغنية، فقد كان لا ينعم بهذا الوسام إلا على الأميرات وزوجات رؤساء الوزراء، وقالت إحدى الأميرات: أنا سأرد إلى الملك النيشان بتاعه وقالت زوجة رئيس وزارة سابق: بكره سينعم فاروق بنيشان الكمال على الراقصة تحية كاريوكا! وقالت زوجة رئيس وزارة آخر: يجيب أن تجتمع كل حاملات وسام الملك لنكتب خطاب احتجاج إلى الملك، وسمعت أم كلثوم أنباء الاحتجاجات وتحول فرحها إلى شقاء وبكت لهذه الإهانات التي تنهال فوق رأسها وترددها صالونات المجتمع الراقي.