بعد سنوات أربع من العقوبات الصارمة والعزلة والعجز، الذي بلغ حد صعوبة شراء لقاحات «كورونا» وأدوية للشعب الإيراني، وبعد مجىء إدارة أمريكية جديدة، تتبنى رؤية ونهجا مغايرا تماما في التعاطي مع نظام الملالي، يبدو بديهيا لأي ذي بصر وبصيرة، بل حد أدنى من التفكير الإستراتيجي، أن يبادر هذا النظام البائس إلى إظهار مؤشرات وشواهد على حسن النوايا، بما يشجع إدارة الرئيس جو بايدن على اتخاذ قرارات تبدو صعبة بالفعل في التعامل مع هذا النظام الذي يحيط نفسه، إقليميا ودوليا، بشحنات هائلة من العداء والشكوك والتوجس!. ولما كانت ردود الفعل الإيراني على خلاف المنطق والعقل، بل واصل الملالي تطبيق سياسة «حافة الهاوية» على أمل انتزاع الحد الأقصى من المكاسب الإستراتيجية من الإدارة الأمريكية الجديدة، فإن السؤال الأكثر إلحاحا يتمحور حول مغزى هذا السلوك الإيراني، وهل يعكس رؤية لدى الملالي أم جهلا بقواعد اللعبة أم رغبة في البقاء داخل دائرة الحصار، واستغلال هذا الصراع المحسوب في انتهاك القيود النووية، وبناء واقع إستراتيجي جديد، يعتقدون أنه سيضع نظام الملالي في دائرة القوى النووية التي تحظى باحترام الجميع؟. في فهم محركات هذا السلوك الابتزازي الإيراني، يمكن الاشارة إلى نقاط عدة: أولها التسليم بأن قادة الملالي باتوا أكثر اقتناعا، من أي وقت مضى، بضرورة امتلاك قدرات عسكرية نووية، علما بأن «عسكرة» برنامجهم النووي كانت هدفا محوريا منذ البداية، وأن هذه القناعة لم تنته بتوقيع الاتفاق النووي في 2015 بل ظلت كامنة بانتظار فرصة مناسبة، وفقا لإستراتيجية «مد وجزر» دقيقة، وعلينا أن نتذكر جيدا أن ذلك الاتفاق المعيوب لم ينه أحلام وطموحات الملالي بل اكتفى بتأجيلها، وهو أمر تقبلوه، لأنه حقق لهم هدفا إستراتيجيا لا يقل أهمية، وهو امتلاك ورقة ضغط أخرى من خلال التمدد والتوسع الجغرافي، ونشر نقاط تمركز إقليمية مهمة، يتوقع لها أن تلعب دورا مؤثرا في أي مساومات حول دور إيران ونفوذها وعلاقتها بالميليشيات الطائفية، بما يسهم في تحقيق الفكرة الأساسية من وراء امتلاك «النووي» وأي قدرات عسكرية وإستراتيجية أخرى، وهي التحول إلى قوة إقليمية ميهمنة. واعتقد أن الملالي يظنون أن سنوات الرئيس بايدن الأربع هي الفرصة التي يجب اغتنماها، لاقتناص مكاسب أكبر سواء على الصعيد النووي أو الإستراتيجي. ثاني النقاط أن الضغوط غير المسبوقة، التي يعانيها الملالي منذ بداية حكم الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترمب، قد زادت نظامهم شراسة وعنفا وميلا إلى الخيارات الانتحارية، التي لا يحول بينهم وبينها سوى محدودية قدراتهم العسكرية، فضلا عن خوفهم على مصير نظامهم السياسي باعتبار أن الاستمرارية هنا هي الهدف الذي يمكن تجرع «كأس السم» من أجل تحققه، وهذا ما يفسر اللجوء إلى نهج «التقية السياسية» أحيانا، والتراجعات والانسحابات، والاكتفاء بلغة التهديد والوعيد والضجيج الدعائي على الرغم من الضربات المؤلمة بل والمهينة التي تلقاها نظام الملالي في مناطق ومناسبات عدة أحيانا أخرى. وهنا يجب تأكيد أن شراسة نظام الملالي لن تظهر بالتأكيد في المبادرة بشن عمل عسكري ضد طرف إقليمي مثل إسرائيل، أو قوة دولية كبرى كالولايات المتحدة، بل بالإصرار والتمسك بفرص التحول إلى قوة نووية، وهذا الأمر سيلعب دورا في محاولات الملالي للمراوغة والمناورة سواء حول شروط العودة للالتزام ببنود الاتفاق النووي، أو رفض مشاركة دول إقليمية في أي مفاوضات مزمعة حول الاتفاق النووي، أو التمترس وراء الصيغة الحالية للاتفاق، والسعي لعرقلة جهود توسيعه، ليشمل جوانب أخرى مثل البرنامج الصاروخي الإيراني أو دور إيران الإقليمي. ثالث النقاط، التي تحكم السلوك السياسي للملالي في المرحلة الراهنة، هي الرغبة في صرف أنظار الشعب الإيراني عن الأزمات المعيشية والمجتمعية والصحية وغير ذلك، والتركيز على حالة الصدام التي ينفخون فيها بين النظام والولايات المتحدة، وهي الحالة التي توفر لهم غطاء تبرير جميع الأزمات وأوجه المعاناة الداخلية التي يعانيها الشعب الإيراني، لذا من الصعب على الملالي أن يوافقوا، في الوقت الراهن تحديدا، على انفراج الأزمة، حيث ينتظر الجميع استحقاق الانتخابات الرئاسية التي يسعى المرشد والحرس الثوري إلى استغلالها في الدفع برئيس ينتمي للتيار الأكثر تشددا. كما يحاولون التملص من تبعات التدهور المتزايد في الصحة العامة للشعب الإيراني جراء الفشل الكبير في إدارة أزمة تفشي وباء «كورونا» في إيران، التي تحولت إلى كارثة يصعب التعامل معها، ومن ثم يبدو خيار الحفاظ على وتيرة «التأزيم» هو الأنسب لهم في الوقت الراهن، ويبرر الحفاظ على نهج الصدام، ووتيرة السلوك السياسي المتشنج بغض النظر عما يحمله من احتمالات التدهور والتصعيد، ورفع منسوب الصدام العسكري مع قوى إقليمية مثل إسرائيل. وعلى الرغم من كل ما سبق من تفسير لسلوكيات الملالي، فعلينا أن نقر بأن هذا النظام يقتات على الأزمات، كونه لا يمتلك أي مشروع تنموي أو حضاري، ومن الصعب عليه أن يتعايش مع بيئة إستراتيجية طبيعية، وهذا ما يجعل مسألة تغيير سلوك النظام أو نهجه مسألة مستبعدة للغاية ما دام هؤلاء الملالي على رأس هرم السلطة في إيران، كونهم يمتلكون رؤية مبتسرة للعالم، تحصر العلاقات الدولية في أطر أيديولوجية ضيقة، وتنظر للآخر إما بنظرة استعلائية فوقية كما في نظرتهم لجوارهم الجغرافي، أو نظرة لا ترى في الآخر سوى عدو متآمر - كما في رؤيتهم للولايات المتحدة والدول الغربية بشكل عام.