قبل مباشرة الأعراض التي تطرأ على طريقة التفكير بعد بلوغ خمسين عاما من العمر، أوضح بأنني قرأت عن هذا الموضوع في غير كتاب من كتب علم النفس المتوافرة، فلم أخرج بشيء ذي بال، سوى الأطر العامة، وبعض المصطلحات ذات المفاهيم العائمة، والتقسيمات المعروفة لأنواع النضج الثلاثة: العقلي، والاجتماعي، والانفعالي؛ ولذا فإنني سأكتب عن تجربتي الشخصية عند بلوغ خمسين عاما، محاولا التخلص من «أنا» و«تاء الفاعل»، وما أشبههما من أدوات التكلم وضمائره، احترازا من أن يكون المقال مذكرات شخصية، أو بعضا من سيرة ذاتية، وهو ليس هذه أو تلك. أزعم أن هناك فرقا كبيرا في طريقة التفكير بين: أن تكون الحياة أمام الإنسان، وأن تكون خلفه؛ بمعنى أن زاوية نظره إلى الأفكار والأشياء والمبادئ والصراعات تختلف مع تقدّمه في العمر، عما كانت عليه في عمر الشباب، اختلافًا يكون – عند بعض الأشخاص- انتقالا كاملا من طرف إلى نقيضه. في الغالب، يكون مآل التفكير أقرب إلى الإنسانية، والسلام، والدعة، والسعادة بما يحققه الآخرون، والقناعة بما تحقق للذات، والإيثار، والتسامح، والعفو، والتنازل، وجماع ذلك كله هو: أن التفكير بعد بلوغ خمسين عامًا من العمر، يصير خاضعًا للمبادئ والقيم والمُثُل العليا، أكثر من خضوعة لمصالح الأنا، والسبب الرئيس في ذلك هو اختلاف الطموحات، من حيث: المدى، والنوع، وبخاصة حين يحقق من بلغ خمسين عاما الحد الأدنى من طموحاته. وعلى الرغم مما تتسم به هذه المرحلة من السلام، إلا أن صاحب المبادئ يصبح أكثر شراسة في الدفاع عنها، والاحتجاج لها، والسعي إلى نشرها بطريقة تشبه فرضها، وأزعم أن هذا التناقض بين: الميل إلى السلام، والشراسة في الدفاع عن المبادئ، ليس سمةً عامّة عند أهل المبادئ الناضجين، وإنما هي خاصة بمن أيّدت الحياةُ مبادئه، والسبب يعود إلى تضاعف ثقة الإنسان في مبادئه بعد أن تثبت التجارب والأحداث سلامتها لديه على الأقل، مما يكسب هذه المبادئ عنده صفة اليقين، وذلك يجعله يدافع عنها بشراسة، ويهاجم رافضيها، ويسعى إلى فرضها فرضا، بوصفها – في رأيه – طريق نجاة وسلام وحياة أفضل للأفراد والمجتمعات والأوطان. بعبارة أخرى: إن هذه الحدّة في الدفاع عن المبادئ تزداد مع معرفة الإنسان اليقينية بمحاور الشر، ومعاول الهدم، سواء أكانت: تنظيمات، أم أفكارا، أم عقائد، أم سياسات، أم دولا، وهي تجتمع –عادةً- في الآيدلوجيات الهادفة إلى السيطرة على الشعوب والأوطان، بغض النظر عن النقاء الذي تدعيه وتشيعه في خطابها؛ لأن العبرة بالمآلات، فإن كان المآل حروبا أهلية، أو حروبا دولية، أو شعوبا مشردة، أو دماء مهدرة، أو أوطانا مدمرة ومستباحة ومقسمة، أو اقتصادات مهترئة، أو تنمية متأخرة، فالفكر أو التنظيم أو السياسة أو العقيدة التي أدت إلى ذلك، تندرج في محور الشر الذي يشعر معه من بلغ خمسين عاما أن من واجباته الأخلاقية التحذير منه، ومن الطرق المؤدية إلى الانضمام إليه أو التعاطف معه، والكشف عن الألعاب الخفية التي يمارسها ناشروه للتغرير وتسميم الرأي العام، واختراق المؤسسات الرسمية والأهلية، والمجتمعات المدنية والريفية، من أجل جلب التعاطف، وتكثير الأتباع والمؤيدين. عند بلوغ خمسين عاما، تتحول مسألة مواجهة محاور الشر هذه إلى قضية ذاتية، إذ تصير مدار التفكير والقراءة والكتابة والبحث، ويصبح دفع ثمن المواجهة معها سببا في راحة الضمير والرضا عن الذات، مهما كان هذا الثمن غاليا، وأفضى إلى خسارة فرص حياتية، أو سمعة، أو مال، أو منصب، أو أشخاص، وربما عاد ذلك إلى كون المخاطرة وعدم التهيب من علامات النضج العقلي كما يقول علماء النفس، وعندي أن لذلك ارتباطا واضحا بكون التفكير يصبح – مع التقدم في العمر - خاضعا للمبادئ، عوضا عن خضوعه للمصلحة الفردية والطموحات التي كانت تسيطر على التفكير في مرحلة الشباب، ثم تتلاشى مع النضج، والتقدم في العمر. بالبناء على التحولات السابقة، فإن من بلغ خمسين عاما، يصير أكثر قدرة على التحكم في مشاعره السلبية، فيتجاوز الأحقاد والضغائن، ويسامح الذين آذوه بقصد أو بدونه، فضلا عن أنه لا يبحث عن أخطاء الآخرين، ولا يتتبع عثراتهم، ولا يعمل على إبرازها، أو التشهير بالمخطئين، إلا أن تكون الأخطاء صادرة عن فرد أو جماعة ينتمون إلى ما ذكرته أعلاه، وهو محاور الشر ومعاول الهدم، فإنه ينبه إليها، وإلى تكرارها، وإلى نتائجها؛ لأنه يشعر بأن المواجهة مع هذه المحاور والمعاول تفوق التنافسية البشرية العادية، إلى الوجودية، وصراع الوجود لا هوادة فيه ولا تنازلات. عند بلوغ خمسين عاما، يصبح ذو الحد الأدنى من الوعي متقبّلا للنقد الموضوعي، وسعيدا به، وساعيا إلى سماعه من الآخرين، سواء أكان هذا النقد موجّها إلى شخصه، أم إلى نتاجه، أم إلى أدائه في عمله، غير أنه يتشدد جدا في اشتراط اتسام النقد بالمنطقية والحياد، وعدم خضوعه للأسباب الشخصية، أو صدوره عن ذي غل أو حسد أو هدف غير ظاهر، باستثناء الأهداف المعروفة للنقد، والمتمثلة في: التقييم، والتقويم، والتجويد، والتطوير، ومعرفة مواطن الجودة، ومواطن الضعف والرداءة التي تسم سلوكياته أو عمله أو نتاجه العلمي والإبداعي. بقيت أعراض أخرى تتعلق بتغير زاوية النظر إلى المرأة عند الرجل، والميل إلى التواضع، وحب الهدوء، ونبذ الصخب، والتوبة عن المجاملات أو المدائح الكاذبة ذات الأهداف المصلحية، والثقة في النفس، وحب مساعدة الآخرين، واحترام القوانين واللوائح، وأشكال غريبة من التمارين الذهنية، كما بقي كلام عما يشذ عن القواعد العامة المتعلقة بالنضج وتحولات طريقة التفكير، وستكون موضوع مقال قادم بإذن الله.