باتت رائحة الموت تنتشر في كل حي ومدينة من المدن السورية التي اعتاد أبناؤها أن يدفنوا موتاهم، كلٌ في مقبرة عائلته. ولكن تسارع الأحداث ومواصلة القتل والتدمير الذي يقوم به جنود النظام وأزلامه لم يترك لأهالي الشهداء فرصة لالتقاط أنفاسهم وتكفين موتاهم ولا لإقامة مراسم العزاء بسبب مواصلة القصف والتدمير ومدينة حمص ودرعا ودير الزور التي عاشت أياما متواصلة على هذا النحو لم يتمكن الأهالي من دفن موتاهم إلا في الحدائق العامة وعلى جناح السرعة لأن قذائف الموت تتربص بالمشيعين الذين يحاولون الخروج بشهدائهم إلى المقابر. ويفرض النظام على أهالي الميت قيودا شديدة ويمنعهم من إقامة العزاء أو استئجار الخيم والكراسي، ومن يخالف ذلك من أهل الميت سيكون موضع مساءلة وعقاب، إلا أن بعض الشباب الذين تدب فيهم الحماسة يأبون إلا أن يجعلوا من كل صلاة على شهيد مظاهرة قائمة بحد ذاتها للتنديد بالنظام والمطالبة بإسقاطه ووقف آلة الموت التي تحصد أرواح الأبرياء. تحدي آلة الحقد ومن المواقف التي يندى لها جبين الإنسانية ضرب النقاط الطبية ومنع المصابين من الوصول إلى المشافي العامة أو الخاصة في ظل حظر السير بالشوارع وغزارة القصف مما يعرض المسعف للموت الحتمي، ومع ذلك لا تزال بعض المشافي الخاصة في المدن المنكوبة تواصل عملها مع وجود نقص شديد في الكوادر الطبية والمواد الإسعافية وقلة غرف العمليات مما يضطر بعض الأطباء والممرضين ومن يملك الخبرة الإسعافية في معالجة الحالات ضمن الحي وبذات المكان وبأدوات طبية بدائية من أجل إنقاذ حياة مصاب أو طفل يبكي من شدة الألم، فيما يقوم بعض النشطاء من الكوادر الطبية بعمل المشافي الميدانية. ويخاطر السوريون بأرواحهم عندما يسمعون نداءات الاستغاثة للتبرع بالدم فيتجهون للمشافي على الرغم من كل العوائق الأمنية التي تتهددهم كل لحظة من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه. ويناشد الأهالي والأطباء والمسعفون المنظمات الإنسانية للعمل السريع والجاد والتدخل لإنقاذ المصابين الذين يحتاجون إلى الرعاية والأدوية، ولكن يقف الجميع من المحنة السورية مكتوفي الأيدي وكأن قدر السوريين أن يبقوا وحدهم يقاتلون آلة الحقد التي تدمر وتقتل بلا هوادة. الموت قنصا ويتحدث أبناء المناطق الساخنة في سورية كثيرا عن الموت الذي يتربص بهم من كل حدب وصوب، حيث يتفنن جيش النظام وشبيحته في ابتكار الجديد منه كل يوم، وبات الموت برصاص القناصة شبحا يتهدد الجميع في كل زمان ومكان ولا يسلم منه أحد مهما حاول التحصن والتدبر، وقناصة النظام الذين يتمتعون بقوة البصر ونفاذيته، لمهاراتهم العالية في ممارسة هذه الرياضة على المواطنين العزل، ولامتلاكهم بنادق ومناظير عالية الدقة، يفتقدون إلى البصيرة ولا يفرقون بين شيخ مسن وطفل صغير وبين من يقف على شرفة منزله ومن يذهب للتسوق أو لشراء حاجيات أطفاله، ولا يوفرون برصاصهم أي شخص يدب على الأرض، ويصبح لكل شهيد حكاية وطريقة في الموت، وكل حكاية تصلح لأن تكون سيناريو فيلم إنساني معبر ويثير الاشمئزاز من القتل المتعمد للقضاء على ثورة شعب أعزل. قناصة إيرانيون وأحياء حمص التي عانت كثيرا من طريقة القتل هذه لم تكن وحدها ميدانا للقناصة بل انتشروا في مدن وأرياف حماة وإدلب ودير الزور. ويتحدث الناس عن وجود قناصة من الجنسية الإيرانية، يقنصون ويدربون جنود النظام على دقة القنص بل ويعتلون أعلى المباني الحكومية وغيرها ليتمكنوا من ممارسة القتل العشوائي على الأبرياء من المدنيين. (ف. س) من سكان مدينة دوما لم يكن من الثوار ولا من الجيش الحر بل رجل أربعيني يقتات مما تصنع يداه، خرج من منزله ليشتري لبناته الصغيرات بعض الحاجيات من البقالة المقابلة لمسكنه وبالكاد وصل لمنتصف الشارع حتى أردته رصاصة تفجرت في صدره قتيلا وعلى مرأى من بناته اللواتي صرخن له وعليه لكنه فارق الحياة وبقي على الأرض لأكثر من ساعة ولم يتمكن جيرانه من سحبه بسبب ذلك القناص الذي زاد عدد ضحاياه في تلك الليلة إلى أربع شهداء. "شكله لم يعجبني" وفي أحد طرق مدينة الرقة كان رجل ستيني يقود دراجته النارية فكان صيدا سهلا للقناص الذي عاجله بالموت، ولما سأله زميله في الحاجز الذي أشاع الخبر، عن سبب قتله لهذا المسن بادره بالقول (شكله لم يعجبني) ..! ولم يسلم الشاب (أ. ع) الذي دفعه فضوله وأخوه الأكبر إلى مد رأسه من البلكون ليعرف ما يحصل بجواره فكان القناص بانتظار عينه اليسرى لتكون مصرعه. أما (ش) صاحب ال 45 عاما فقد كان يجلس في منزله مع أهله وتسللت رصاصة القناص من الشباك لتستقر في رقبته. وكذلك كانت رصاصة القناص بالمرصاد لسيدة تقرأ القرآن في بيتها عندما اشتد القصف عليهم في حي برزة، فماتت وبيدها كتاب الله، ولم يستطع أحد إسعافها إلى أن فارقت الحياة بين أيدي أهلها. قصص كثيرة أبطالها قناصة النظام الذي وجد في هذه الوسيلة طريقة لبث الذعر والموت بين الناس ليستطيعوا القضاء عليهم، ولكن الشعب السوري الذي رفع شعار (الموت ولا المذلة) صمم على مواصلة الطريق حتى نهايته غير آبه برائحة الموت التي تنتشر في كل مكان. لحظات عصيبة وإلى جانب المعاناة مع الموت وعمليات القنص، فللقصف المدفعي قصص إرهاب وخوف تجعل اللحظات التي يعيشها السوريون عصيبة وهم ينتظرون قدرهم المحتوم ويواجهون أسلحة النظام بصدور عارية ولا يملكون غير التضرع إلى الله وسيلة للصبر على ما قد يحل بهم من فجيعة. ومن أقسى اللحظات وأصعبها عندما تمطرهم المضادات الأرضية الثقيلة وطائرات الهليوكوبتر بحممها القاتلة وما بين انطلاق القذيفة وسقوطها هناك ثوان صعبة حيث الكل ينتظر ويتوقع أين ستسقط تلك القذيفة وعلى من وكم ستحصد من الأرواح، وإلى أن تسقط ينتاب المنتظرين شعور الموت ويعيشونه قبل أن يحل بهم. ومن لا يكون تحت بنائه ملجأ أو (سرداب) كما يقال بالعامية، يصبح أكثر عرضة لتلك القذائف. ومن اللحظات الإنسانية التي يعيشونها في الطوابق الأرضية والملاجئ حيث تكتظ بالجوار وقاطني البناء ومن يكون في الطريق يطلب الحماية وغالبا ما يكون فيها عشرات الناس من مختلف الأعمار، شبابا ورجالا ونساء وأطفالا، يجمعهم حب الحياة والتطلع إلى حياة الحرية القادمة. تكهنات وذكريات يتجاذبون أطراف الحديث والتكهنات بما سيحدث وأين وقعت تلك القذيفة ويستعيدون الذكريات المريرة، في بعض الأحيان تخيم على الجو روح من الدعابة ممن يملك رباطة الجأش ولديه القدرة على إضفاء المرح لبعض الوقت، فيما يستسلم البعض للدعاء والابتهال إلى الله والصلاة، وأقسى تلك اللحظات عندما تنقطع الكهرباء عنهم ويضيق عليهم التنفس ولا يجدون الماء مما يزيد في قسوة الظرف وحلكته، وهذه الحالة أشاعت جوا من الود الاجتماعي وزيادة الألفة بين الناس الذين يجمعهم القدر في هذا الموقف اليومي. ضيف ثقيل ويعاني أصحاب البيوت التي تكون على الشوارع الرئيسية كثيرا من وابل الرصاص الذي يخترق جدرانهم دون استئذان، وتكون قذائف الآر بي جي ضيفا ثقيلا على عائلات حاولت أن تحمي نفسها في الغرف الواقعة وسط البيت ولكن يد القدر تكون ألطف وأرحم من تلك القذيفة، أما أصحاب الطوابق العالية فلهم مع الموت والقذائف قصص كثيرة حيث لا يعرفون متى تباغتهم حمم المدفعية الثقيلة وتحول الطابق إلى شعلة من نار. تلك حكاية من عشرات الحكايات التي يعيشها أبناء سورية الذين يدركون أن الموت قادم لا محالة، ولكن قدومه بهذه الطريقة البشعة من قلوب لا تعرف الرحمة للأطفال والنساء والشيوخ والشباب يجعل للموت طعما آخر.