يجري الحديث كثيرا عن إدراج مقرر للفلسفة في المرحلة الثانوية، وهو مطلب قديم يتجدد. وفي رأيي أنه بلغ حد الضرورة خاصة في هذا الزمن الذي يشهد ثورة غير مسبوقة في التواصل الإنساني شملت كل جوانب الحياة. هذا يذكرنا بالزمن الذي نشأت فيه بدايات الفلسفة الإسلامية، التي تشكلت في حقبة علم الكلام، وهو علم نشأ أصلا للاستدلال العقلي على صحة المعتقدات الإسلامية ومنطقيتها. إذ إن اتساع مساحة الدولة الإسلامية في ذلك الزمن واختلاط المسلمين بثقافات مختلفة، واعتناق المزيد من الناس للإسلام، خلقت حالة من الجدل حول الأفكار الإسلامية. وعندها قامت الحاجة لوجود مجال فلسفي يعنى بالرد على الشبهات والاستدلال بالنصوص القرآنية لإقناع العقل بالعقائد والعبادات. إضافة إلى إيجاد منطق فلسفي إسلامي قادر على مواجهة الفلسفة الهندية والفارسية واليونانية التي أصبحت حاضرة بقوة في المشهد الفكري الإسلامي. فإذا كان الاحتياج للفلسفة في القرن التاسع الميلادي بهذا الحجم، فاحتياجنا لها في هذا العصر أكبر. وغياب الفلسفة عن البرنامج التعليمي لأبنائنا هو غياب غير مبرر، كما أن المخاوف من تدريس الفلسفة هي مخاوف غير منطقية. والذين يعارضون تدريس الفلسفة ينقسمون إلى فريقين، الأول يرى تحريمها سدا للذرائع، وهؤلاء يقيمون فكرتهم على أن تشعب تجربة أهل الكلام كان سلبيا وأدى إلى الإغراق في محاولة إسناد الإيمان بالله للمنطق والعقل، ويرون أن طرح الأسئلة حول المسلمات يؤدي للشطط والمساس بثوابت الدين، ولكن يفوت أصحاب هذا المذهب أن العقل والإرادة الحرة كانا هبة الرب واختياره للبشرية، وأن القرآن الكريم خاطب عقل الإنسان وناقش قناعاته. كما أن فروع الدين المختلفة التي يدرسها الطلبة اليوم كالتوحيد والفقه وأصول الدين وغيرها إنما هي نتاج فلسفي تم فيه إعمال العقل واعتماد أساليب الاستدلال، وعلى سبيل المثال فقد كان (الفقه الأكبر) لأبي حنيفة يناقش مسائل العقيدة في مقابل (الفقه الأصغر) الذي يناقش العبادات، وأن العلماء الأوائل رواد العصر الإسلامي الذهبي مثل الكندي والرازي والفارابي وابن النفيس وابن سينا وابن رشد وغيرهم لم يكونوا حُفّاظا بل كانوا فلاسفة، كما أن القرآن في مواضع عديدة يدعونا للإيمان عن طريق التأمل والتدبر وإعمال العقل في الكون والأقدار والتجارب. فالإيمان بالله مطروح في القرآن كتجربة استقصائية تصل بالإنسان لتبني قناعات حقيقية يعيش معها مطمئنا متوازنا. من خلال عملنا في الميدان التربوي، نعلم تماما أن الأسئلة تتكاثر يوما بعد يوم في عقول المتعلمين، حول الوجود والمعنى والمصير والخير والشر وسائر الأمور التي تفلسفت البشرية بشأنها منذ آلاف السنين. فحري بنا أن نأخذ بأيديهم نحو طريق المعرفة ليتمكنوا من إتقان مهارة التساؤل وفنون الاستدلال. أما الفريق الثاني من معارضي تدريس الفلسفة فهم أولئك الذين يعتبرون الفلسفة نوعا من الترف الفكري والسفسطائية البعيدة عن واقع الناس وحياتهم. والحقيقة أن الفلسفة هي أم العلوم، والأمم تنتج الحضارة عندما تتفلسف. فالعلوم كلها تقوم على طرح الأسئلة، والسؤال يقود العقل في مسارات الحكمة والشغف والدهشة. إن تحرير العقل من النمطية والقيود هو أول الطريق لتشكيل شخصية خلاقة قادرة على الإبداع والاستنباط والتفكير الناقد والتعامل مع التناقضات والاختلافات. (اعرف نفسك) مقولة قديمة لسقراط وكأنما يشير فيها إلى أن إحدى مهام الفلسفة هي مصاحبة العقل في رحلته نحو اكتشاف الذات، وإلقاء الضوء على الأجزاء البعيدة من النفس البشرية. إننا باستثنائنا تدريس الفلسفة من برنامجنا التعليمي، نغيب عن أجيالنا معرفة حكاية الفكر البشري وكيفية إنتاجه وتراكمه، وكأننا نعطيهم سمكاً لكننا لا نعلمهم كيف يصطادون.