أستاذ الفلسفة المشهور زكي نجيب محمود (1905 – 1993) لا يحتاج إلى تعريف فهو أحد رموز الثقافة في العالم العربي وما زالت كتبه مقروءة إلى اليوم ومعتبرة. سافر زكي نجيب إلى إنكلترا لتحصيل درجة الدكتوراة في الفلسفة في زمن كانت الحرب العالمية الثانية ما زالت تشتعل نيرانها، كان هذا في عام 1943 وقد ذكر شيئاً عن وجه الحرب الذي رآه في بعض كتبه. أعجب د. زكي بالفلسفة الإنكليزية التحليلية متأثراً في ذلك ببرتراند راسل، كما أنه أعجب جداً بالمنطقية الوضعية وداعيتها لودفيغ فتغنشتاين ومن ورائه حلقة فيينا، فأصبح د. زكي داعية المنطقية الوضعية ونبذ الميتافيزيقيا في مصر والوطن العربي، ولعل هذا كان في فترة الشباب والحماس وارتفاع موضة «الفلسفة العلمية» في ذلك الوقت. ولم يلبث مزاج العالم أن تغير فرمى بالمنطقية الوضعية على رف التاريخ ولم تعد تجد من يتحمس لها. يذكر د. مصطفى حلمي أن د. زكي قد رجع في آخر حياته عن المنطقية الوضعية. ما أود الحديث عنه اليوم، ليس زكي نجيب المفكر ولا الفيلسوف، بل هناك وجه لهذا الرجل لا يعرفه كثير من أرباب الفكر والثقافة، ألا وهو زكي نجيب محمود المترجم. أستطيع القول وبكثير من الثقة أن زكي نجيب كان مدرسة في الترجمة. هذا ليس من قبيل الكلام الذي يلقى على عواهنه، بل لم أقله إلا بعد التجربة والخبرة. فقد قابلت بين النص الأصلي لكتاب برتراند راسل (تاريخ الفلسفة الغربية) وهو كتاب واحد من ألف صفحة، مع ترجمته إلى العربية التي تحولت إلى ثلاثة أجزاء، قام زكي نجيب محمود بترجمة الجزءين الأولين فقط، فوجدت الدقة المتناهية في الترجمة والقدرة الفريدة في ترجمة الكلام الصعب إلى لغة عربية سهلة بسيطة، الرجل فعلا مدرسة في الترجمة. من الأمثلة التي توضح هذا، تلك الكلمة الغامضة التي قد يحار من يسمعها أول مرة في معناها common sense وإذا عرف ترجمتها (الحس المشترك) لم يزدد إلا حيرة في تصور هذا الحس المشترك. لقد اقترح د. زكي نجيب، أن يترجم المصطلحcommon sense إلى (الفهم المشترك) بدلاً من (الحس المشترك) لأن كلمة sense لها معنيان، فهي تعني إحدى الحواس الخمس (السمع والبصر واللمس والشم والذوق) كما أنها تعني أيضاً المعنى العقلي، فعندما تجدهم يصفون قولاً ما، بأنه common sense فهم يقصدون بذلك أنه شيء يمكن إدراكه للناس جميعاً بفطرتهم وبداهتهم، ولا يحتاج لتعلّم ولا تدريب. وإذا تأملنا هذا الاقتراح لوجدناه صائباً تماماً، وأن الترجمة الأولى قد أدت لتشتيت فهم القارئ العربي وعدم تصوره للمقصود. هذا ليس سوى مثل واحد يدل على عبقرية هذا الرجل في مجال الترجمة، وتميزه الكبير فيها.