هناك حكمة جميلة تقول: «إذا اشتريت ما لا تحتاجه بعت ما تحتاجه». وهذا القول يعكس سلوكا استهلاكيا ونمطا في الإنفاق، يشذّ عن السلوك الراشد الذي يفترض أن يسود في المجتمع، بإنفاق المال في مكانه الصحيح. وهذا السلوك الراشد لا يعني الحد من الاستهلاك، بقدر ما يعني ترشيد الاستهلاك. صحيح أن الاقتصاديّ الأميركي المعروف چون ماينارد كينز قال في سياق شرحه لمضمون منظور التوازن في نظريته الاقتصادية المعروفة بالنظرية العامة: «أنفق.. أنفق.. أنفق»، داعيا إلى تنشيط الاقتصاد حتى يتم تحريك المدَّخرات ورفع وتيرة الاستثمار في الاقتصاد، إلاَّ أنه لا يمكن أن يكون قد قصد قيام مجتمع استهلاكي لا يفكر في الادِّخار الذي يجب أن يكون وعاءً لتجميع الأموال، ثم توجيهها نحو مصارف الاستثمار المجدية في الاقتصاد. فالاستثمار هو المحرِّك الأول والمفعِّل الأساسي لعناصر الإنتاج في المجتمع. ويكون السلوك الاستهلاكي المفرط في أي اقتصاد أكثر سوءا وضررا، إذا كان الاقتصاد يعتمد على الاستيراد ولا ينتج ما يستهلك، وبالتالي يكون الإفراط في الاستهلاك نزفا ماليا للاقتصاد. ولهذا، فإن المجتمع المتحضِّر، ليس مطالبا فقط باستثمار موارده الاقتصادية، وإنما بترشيد سلوكه الاستهلاكي ونمط معيشته، بحيث يُسهم في تفعيل كل القدرات الإنتاجية في الاقتصاد. إن كثيرا من هذه المفاهيم والمعاملات الاقتصادية تحتاج إلى تأصيل وتقعيد شرعي، وهذه مهمَّة متخصِّصة تتطلَّب ممن يتصدَّى لها أن يكون مُلمّاً بعلم الاقتصاد، وفي الوقت نفسه عالما بأمور الشريعة الإسلامية ذات العلاقة. والسبب في هذه الحاجة، هو أهمية أن يتفاعل الإنسان المسلم مع قضايا الاقتصاد المعاصرة، دونما شعور بأي حرج أو شك في شرعيتها. وسماحة الدين الإسلامي الحنيف، وما يختزنه من مكنون فكري يمكِّنه من التعامل والتفاعل مع كل عصر وزمان، يدفعنا إلى المطالبة بالتأصيل والتقعيد الشرعي لكثير من القضايا الاقتصادية المعاصرة، بما يحقَّق لنا الفائدة لدنيانا والصلاح لآخرتنا، حتى وإن زهد بعض الناس في هذه الدنيا الفانية. فالزهد لا يعني الانكفاء أو التخاذل، أو يحول بين الإنسان وبين أن يكون عنصرا فاعلا في المجتمع والاقتصاد. قيل للحسن البصري: ما سر زهدك في الدنيا؟ فقال: «علمت أن رزقي لن يأخذه غيري فاطمأن قلبي له، وعلمت أن عملي لا يقوم به غيري فاشتغلت به، وعلمت أن الله مطِّلع عليَّ فاستحييت أن أقابله على معصية، وعلمت أن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء الله».