أذكر ذلك اليوم جيدا، عندما جاءني ذلك الصديق العزيز أثناء غربتي في لندن عام 1402 هاربا من الصحافة المحلية وهمومها ومشاكلها، وقال: هل تريد أن ترافقني في رحلة إلى نيويورك لترى عالما آخر غير عالم هؤلاء الإنجليز الذين «عدوك» ب«البرود»، بحيث لا تغادر غرفتك في الفندق المتواضع جدا والكئيب، إلا لتشتري الجرائد والمجلات العربية التي أبعدتك جدا عن تعلم اللغة الإنجليزية؟. قلت له بدون مقدمات أو تفكير: هل تريد أن تنقل بدويا مثلي نقلة حضارية أخرى إلى أميركا رأسا، وهو الذي لم يفق حتى الآن من الصدمة الحضارية التي أصابته منذ أن وطئت قدماه مطار لندن؟ وفي نفس اليوم، أخذ جوازي ثم أتى لي بتأشيرة من السفارة الأميركية في لندن وبتذكرة السفر، لدرجة أنني أصبت فعلا بصدمة حضارية ثانية، عندما استخرج التأشيرة وقطع التذكرة وحجز لي معه في ساعات محدودة لم أرافقه فيها، بل جلست في صالة الفندق الكئيب أمارس عادة القراءة إلى أن عاد، وحتى قبل أن أطلب كاسة الشاي الثانية من نادل الفندق! في اليوم التالي، كنا في شقته في قلب مانهاتن، حيث صدمت بالصدمة الحضارية الثالثة وأنا أصعد معه العمارة التي تعتبر حينها من ناطحات السحاب، وهي تكشف أمامي كل مدينة نيويورك عن بكرة أبيها، من تمثال الحرية إلى مبنى الأممالمتحدة إلى مركز التجارة العالمي الذي انهار أخيرا على من فيه، بعد أن اخترقته طائرتان مختطفتان، وما زال البوليس الأميركي يتخبط في إلقاء التهم على أولادنا المبتعثين هناك بطريقة عشوائية ارتجالية، لا تلمس فيها أي ذكاء لمحققي السي آي أيه، الذين كان يشاع عنهم أنهم يستطيعون معرفة ما بداخل غرفة نومك! تواردت كل هذه الخواطر أمامي وأنا متسمر أمام شاشة التلفزيون، أتنقل من محطة إلى أخرى لمعرفة آخر الأخبار.. وعندما لاحظت إحدى بناتي شرودي المريع مع هذه الأحداث سألتني: ما الحكاية؟ قلت لها أثناء ما كانت الصورة التلفزيونية تمر على حي مانهاتن: لقد كنت يا ابنتي يوما ما هناك أقطف شيئا من الحضارة من منبعها، ومن يومها تعلمت ألا أضربك مهما كانت أخطاؤك، لدرجة أنك الآن تتمنعين عن إعطائي كاسة ماء بارد لأشرب وتقولين: أليست الحضارة تقول يا أبت عليك أن تخدم نفسك بنفسك؟!. * 1995