وصلت الى موسكو… لم تك هذه المرة الاولى التي أزور فيها الاتحاد السوفياتي… فقد مررت به من قبل في طريقي من زغرب عاصمة جمهورية كرواتيا لاستقل من كييف ما كان يُسمى آنذاك بقطار آسيا القاري في رحلة شيقة داخل مقصورة النوم. تجاوزت في مجمل ايامها الاسبوع الكامل مروراً بأصقاع سيبيريا وعبر هضبة فلادفستك المطلة على تخوم اليابان وصولاً الى بكين عاصمة الصين… ولا ادري للحين لماذا فضّلت وانا أُعبئ استمارة طلب تأشيرة الدخول بالسفارة الروسية بالخرطوم الاجابة بلا على مضمون وفحوى السؤال القائل: هل سبق لك وان زرت الاتحاد السوفياتي من قبل؟ ها آنذا اليوم في موسكو وقد حضرت اليها هذه المرة لاتلقى فيها دروساً مسهبة وتدريبات مكثفة في اكثر علوم العصر الحديث تعقيداً والتواء وغموضاً، حيث أخذت بمجرد خروجي من طائرة ال"ايرفلوت" داخل سيارة طويلة سوداء كتلك التي تستعمل في نقل الموتى، نوافذها محكمة الاغلاق وبداخلها جهاز بث والتقاط لم يكف عن ارسال شفرات لاسلكية متقطعة منذ لحظة مغادرتنا قاعة المطار في رحلة من طولها خلتها ضحى يوم كامل حتى وصولنا للمقر المُعدّ، والذي اعتقد جازماً بأنه كان يقع على مشارف ضاحية قصبة خارج نطاق العاصمة المترامية الاطراف، وهو مبنى مكوّن من طابقين الاعلى منه مجهز للسكن والارضي خاص بتلقي الدروس وحوله مساحة ارض شاسعة تحدها اسوار عالية فوقها سلك شائك مكهرب، بها منفذان احدهما للخروج والآخر للدخول يجلس قبالتهما نهاراً حارسان مدججان وعند حلول المساء تطلق بالساحة مجموعة من الكلاب الشرسة المدرّبة التي طالما ذكّرني نباحها المكتوم بصوت "هاوند الباسكرفييل" اما العم فانيا نادل المعطم العجوز كان كتوشيحة قدماء المغول التي لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم، فقط كان يبحلق ويبحلق ويدندن احياناً بلحن اوكراني قديم، يبتسم في لحظات نادرة اكثر ما تتجلى حينما يختلي بالطاهيتين ماريا وتانيا، بعد انتهاء فترة عملهما ليشاركهما وهو متكوم على التخت الخشبي احتساء قدحين من رحيق الفودكا الاصلية او اكواب من عصير النبيذ المنزلي المعتّق، وكثيراً ما كنت أترجم نظراته الخرساء لي حينما يلقاني بغتة في ردهة القاعة الارضية كمن يلحّ في سؤالي هامساً "ما دهاك يا بني؟". خرجت من تحت الارض من قطار المترو عصر ذاك السبت عند محطة مسرح "البولشوي" امام منحى ساحة "الكرملين" وانا أمنّي نفسي بأشياء عديدة، أقلها اختلاس لحظات سارة أزيح في خلالها ما علق بذهني طيلة ايام الاسبوع المنصرم من تكدس رهيب لمعلومات غزيرة ومتنوعة تفوق في كنهها حد الوصف والتقدير، وقادتني قدماي في تلك المرة الى مطعم فندق "المتروبول" ودلفت على عجل لا ألوى على شيء سوى الاسترخاء التام على طاولة منزوية بركن هادئ بعيد اتناول عليها شريحة من لحم الغزال البري المتبّل في عجينة الثوم والليمون واحتسي جرعات من عرق البرقوق المجفف على انغام احدى مقطوعات شايكوفسكي الخالدة. "يا الهي ان بك الكثير من ملامح بوشكين، هل تسمح لي بالجلوس للحظات معك ان كان هذا لا يضايقك؟". ورفعت رأسي بدهشة لأتبين مصدر الصوت الآتي ذاك الناطق بلغة انكليزية رصينة قلما تسمعها في تلك البقاع، كانت امرأة تبدو في الاربعينات من عمرها، قصيرة نوعاً ممتلئة القد مجدولة الشعر بها مسحة خفيفة من بقايا جمال سابق الا ان اسنانها كانت على غير المألوف متراصة وناصعة، وأجبتها عن عمد بلهجة روسية دارجة: "تفضلي سيدتي فليس هناك ما يضير" ارتسمت بسمة باهتة على شفتيها الخاليتين من اي اثر لطلاء الروج وتمتمت "هذه عبارة طالما درج المراهقون من شبابنا على ترديدها عندما تسنح لهم الفرصة ويخاطبون النساء، ويبدو انك قديم عهد بموسكو". وقاطعتها دون اكثراث "على النقيض فإقامتي هنا لم تتعد الاشهر القليلة، ولكنني بطبيعة الحال اجيد اللغات السلافية ككل"، وهزّت كتفيها معلّقة: "وماذا تعمل هنا؟ لا بد ان احد اولئك الديبلوماسيين؟". واجبتها وانا ازدرد قطعة من اللحم "كلا فأنا ملاح جوي اعمل بطائرات رشّ المحاصيل وقد بعثت الى هنا لمزيد من التحصيل والتدريب في كيفية ابادة الآفات الضارة والفاتكة بلوزات القطن". وصاحت "اذاً فأنت من مصر". لم أعلّق وعمدت الى تغيير سير الحوار قائلاً: "هل تفضلين هذا النوع من الشراب الذي امامي ام اطلب لك شيئاً خلافه؟" ردّت وقد تأهبت للوقوف "شكراً يا عزيزي فأنا كنت قد طلبت اطباقاً من الفطائر المحشوة لآخذها معي لشقتي لا سيما وانا احتفل اليوم بعيد زواجي" ونهضت وناولتها على الفور قدحاً من مشروب العرق ورفعت قدحي مهنئاً: "لنشرب نخب هذه المناسبة السعيدة". واجابت بصوت خامل "ليست هي بالسعيدة كما تظن، فزوجي قد توفى غرقاً قبل عامين داخل غواصة نووية بالقطب الشمالي". وابديت اسفي عبر تقطيبة لملامح وجهي، بينما استطردت هي قائلة: "لا بأس لو تشاركني احتفالي إن كنت غير مرتبط هذا المساء، فأنا لعلمك اقطن لوحدي لا احد معى سوى هرّتي لوسي ومكاني ليس ببعيد عن هنا" وباغتها "ولكن لا بد وانك قد دعوت بعض اصدقائك المفضلين للاحتفاء معك؟". قالت بفتور: "ابداً بأنا قد درجت على الاحتفال بهذه المناسبة لوحدي دون دعوة احد، الا ان هذا لا يمنع من حضورك ان كنت ترغب حقاً في ذلك". وخرجنا صوب شقتها التي تقع في الطابق السابع من عمارة حديثة البناء، بعد ان تزودنا بقارورة من البراندي الارمني الصنع والتي أصرّيت انا على دفع ثمنها كمساهمة مني في الاحتفال، وتحادثنا ونحن في خلوتنا تلك في اشياء كثيرة، حدثتني هي عن نفسها وعن عملها كموظفة استقبال باحدى الوزارات وكيف انها لا تأبه بالفلسفة الاشتراكية وتعشق الحياة الصاخبة، وانها بطبعها ملولة ولا تحب الاطفال ولا تشرب الحليب ومستخرجات الألبان، وتهوى التبغ الغربي والعشاء بالسمك المقلي والكافيار الاسود، تكره السباحة ومتابعة برامج التلفاز، تميل الى قراءة الاشعار والتحدث باللغات الاجنبية، تفضل رقصة التانغو الهادئة وتربية القطط ولبس بنطال الجينز، لا تفكر كثيراً في الممارسة الجنسية ولا تستهويها الاسفار، ثرثرت وأفاضت وانا استمع اليها بشرود وفجأة توقفت عن الكلام وتنهدت وزفرت ثم واصلت بصوت خافت هامسة: "انا لا اشك مطلقاً في ان يوري، زوجي، قد مات مسموماً داخل تلك الغواصة، هكذا أرادوا له ان يموت"، وجرعت كؤوسها بنهم حتى الثمالة واجشهت بالبكاء ونامت على الأريكة بلا وسادة ودون اي غطاء. ودرجت من ثم على لقياها كل سبت، وتوطدت علاقتنا رويداً رويدا، ولاحظت فيما لاحظت انها تجيد بشكل خاص التحدث باللغة الالمانية اذ كانت لديها صديقة ما انفكّت تخابرها مراراً في ساعات متأخرة من الليل من مدينة كولون، تطول المكالمة وانا لا افهم ما يدور من حوار، كما انها كانت ولفترات متفاوتة تختفي بحجة انها تذهب لمعاودة جدتها التي تُعالج باحدى المنتجعات الصحية في قرية خاملة الذكر على الحدود الفنلندية. وتوالت الاعوام وقد حططت رحالي هذه المرة بلندن عاصمة الضباب، وانا اتجول في صباح يوم مشمس نضير رأيتها فجأة امامي تعبر شارع "بوند ستريت"، هي بلحمها وشحمها لا مراء في ذلك وصرخت فرحاً: "نتاشا… نتاشا" ولكنها لم تعرني التفاتة وواصلت سيرها متأبطة ذراع رجل تدلّ ملامحه دون ريبة بأنه سوفياتي الاصل لا محالة، وخببت لألحق بها وعلى مقربة منهما سمعت اطراف حديث باللغة الروسية، حوار فيه غلظة في اللفظ ولا يخلو من ورود بعض الكلمات النابية، وفجأة استدارت نحوي حين بلغت منعطف الطريق ورمتني بابتسامة عريضة لا ادري ان كانت باهتة او ذات معنى. انقضت عدة ايام وانا اقيم بفندق "بلازا" المواجه لمبنى الاممالمتحدةبنيويورك حيث كنت قد وصلتها لحضور احدى دورات الجمعية العامة، الفندق مكتظ باعضاء الوفود المختلفة، وانا اسلّم مفتاح غرفتي لموظف الاستقبال فاذا به يسلّمني رسالة مظرفة عليها اسمي كاملاً، وفضضتها بلهفة يا للعجب رسالة لي ممن يا ترى؟ وبهت وانا التهم كلماتها "لقد رأيتك بقاعة الجمعية وانت تصغي بانتباه للمداولات المطروحة وعجبت ماذا يفعل ملاح طائرات الرش في هذا المكان اللهم إلا اذا كان رواده من الحشرات، معذرة لهذه المداعبة السمجة ومعذرة مرة اخرى من عدم تمكني من ايفائك حق السلام في لندن الصيف المنصرم. كم أحنّ للقياك ولكنني مغادرة اليوم اذ ان غداً هو تاريخ احتفالي بعيد زواجي ولا بد من البحث عن احد ما في مثل لطفك ليشاركني بهجة احتفالي. اتذكر؟ رجاء احرق الرسالة". وتبخرت ذكراها من ثم كلية من مخيلتي، وانشغلت عنها بمشاغل الحياة العديدة، الا ان مجريات الاحداث كانت تأبى الا ان تعرضها امامي بين الفينة والاخرى، فأنا اليوم في رومانيا أجلس عصراً بمقهى "سكانتيا" في كبد بوخارست وعلى مرمى حجر من قصر الرئيس شاوشيسكو، حرسه يعج بالساحة وعبق النرجس والغاردينيا يعطر الاجواء وحسان الغجر يتمخترن ممشوقات الكشح وفارهات القوام، اردافهن مشدودات وخصورهن ضامرات كخصر ناديا كومنشكي، لا يتورعن عن المبادرة بالحديث مع الغرباء، يتلهفن على طلب سجائر "الكنت كنغ سايز" الناصع البياض، وانا في خضم ذلك منكبّ أطالع صحيفة "السياسة" الرومانية أتطلع في عناوينها الرئيسية واقلب صفحاتها بسأم وملل، وفجأت تسمّرت عيناي امام صورة لفتاة مكبّلة، ما هذا… انها هي… انها "نتاشا" وتحت الصورة ثمة خبر بالخط العريض "تنفيذ حكم الاعدام رمياً بالرصاص في موسكو على الملازم "اولغا ناوموفسكا" بعد ادانتها بتهمة الخيانة العظمى، اذاً فقد كانت تدعى "اولغا" وليست نتاشا ولكن لا غرو في ذلك فهي نفسها كان تناديني باسم "سامي" كما اخبرتها، سامي القادم من اليمن السعيد، ولكن يا للملعونة كيف تسنى لها معرفة اسمي الحقيقي ذاك الذي خطته على ظرف رسالتها لي عندئذ بفندق "بلازا نيويورك" ومن خلال كل ذلك خطرت بذهني جملة كانت قد قالتها لي يوماً ونحن نجلس في اريكة خشبية بحديقة الصفصاف نتناقش في ابعاد فلسفة الموت لدى تشيخوف، عندما رنت لي بوجه كالح وصوت غائر قائلة: "يا عزيزي كم أكره الموت العادي، ذلك الشيء الذي يحدث عادة للآخرين، انا لا اريد ان أموت في استرخاء، لا اريد ان أموت كالسوام". * كاتب سوداني مقيم بالخليج.