يشكو حازم سعود من أحد رفاقه الذي يحب الجدل ويتعصب لرأيه دائما، يقول " يمتلك صديقي مقومات الصديق الذي نبحث عنها، ولكن ما يزعجني فيه أننا نقتطع الكثير من أوقاتنا المخصصة للنزهة لحل مشاكله، ففي كل مرة نذهب سوياً للنزهة يدخل في نقاشات حادة مع الآخرين في مواضيع مختلفة، تنتهي بعراك يفقدنا الاستمتاع بنزهتنا، وأصبحنا مع مرور الوقت نحتسب وقتا إضافيا في كل طريق نسلكه للوقوف بجانبه للتخفيف من آثار سلوكه". ويرجع حازم السبب في عدم قدرة صديقه على التواصل الجيد مع الآخرين ، ويقول "اعتدنا على تكييف أنفسنا للتعامل معه، والتسليم له في كل مسألة نخوض فيها، لأنه يصِر على أن رأيه الأصوب، ولا يهتم بمخالفيه ولو كثروا، وما يزيد المشكلة تعقيداً تعمده الدخول في الجدل والنقاش غير البناء، حتى مع من نصادفهم من العاملين في المحال التجارية، والمطاعم، والمقاهي التي نتوجه إليها، ويكثر خلال ذلك النقاش الحاد ، وترتفع معه الأصوات، مما يضطرنا لتغيير وجهتنا للبحث عن مكان آخر أكثر هدوءَا ً للجلوس فيه". وتقول أم عبدالرحمن إن إجازة الأسبوع فرصة يستغلونها لكسر الروتين، وإخراج الأولاد في نزهة ليجددوا نشاطهم، ويروحوا عن أنفسهم، غير أن ما يعكر صفو نزهتهم ما تواجهه من حرج بسبب صدام زوجها المتكرر مع من يصادفه، وتستطرد قائلة إن "زوجي ودود مع أبنائه، ويحب أن يقضي أغلب الوقت معهم، غير أنه لا يحسن إدارة الحوار والتعامل مع الناس، مما يفسد علينا متعتنا بحياتنا الاجتماعية، بسبب حبه للجدال، مما يدفعهم أحيانا للاستغناء عن النزهة، والعودة للمنزل". وتصف أم عبدالرحمن معاناتها وتقول "توجهنا لأحد المطاعم العائلية، وطلبنا وجبة عشاء بحرية، وبمجرد أن أحضر عامل المطعم الطلب دخل معه في نقاش طويل عن مكونات المأكولات، ونوع الزيت الذي طهيت به، وحداثته من قدمه، وانتهى هذا الحوار الطويل مع العامل الذي لم تخدمه لغته المكسرة لإقناع زوجها بخلاف تسبب في تجمهر الكثيرين حولنا، وشعرنا بحرج أفقدنا الفرح بنزهتنا". وتضيف أنها طلبت منه بعد هذه الحادثة أن يعرض نفسه على اختصاصي اجتماعي أو نفسي للتخلص أو تقليص هذه السَجِيّة غير المحمودة عنده، فغضب، وتقول إن ما يزيد الأمر سوءَا أن أبناءَها اكتسبوا الحدة في النقاش، والغلظة في التعامل مع الآخرين منه، ويميلون للجدل المفضي للنزاع . "ماجد" شاب في عقده الثالث، وأحد المعروفين في أوساط زملائه بتمسكه برأيه والذود عنه بكل ما يملك، وعن سر استعداده لخوض مغامرات الخصومة والشجار دفاعا عن رأيه، قال "بالنسبة لي أعتقد أنه ليس من الرقي الأخلاقي والسمو الحضاري أن يسكت الشخص عن رأيه الذي يعتقد أنه صواب، خصوصاً إذا ما تعلق الأمر بثوابت دينية، أو حقائق تاريخية، أو المعلومات المتعلقة بالأنساب". ويرى أن "الشخص لا بد أن يتصدى لأي معلومة خاطئة بحزم وقوة، لأنها أمانة لا يمكن إخفاؤها، لأن سكوته إقرار ضمني بصوابها، والمعلومة الخاطئة بحسب رأيه لا تقبل المحاباة والمجاملة. ويضيف "ماجد" أن "العلاقات المجاملة هشة وشكلية مزيفة وسطحية تافهة غير مبنية على قناعة حقيقية، ودافعها الوصول لرضا المخاطب (الناس) ، وهو ما ذمه الدين الحنيف"، مشيراً إلى أن الإنسان يجب أن يواجه محاوره بالحقيقة مهما كان مستواه العلمي أو الوظيفي أو الاجتماعي، ويجب عليه أن يكون حازماً في ذلك، وألا يضعف بأعداد المخالفين له، وأن يكون رأيه مجرداً عن المجاملات. ويضيف إن "الدفاع عن الحق من مهام النبلاء، وأقوى المعارف والعلوم استقيناها من أجدادنا الأعراب الذين عرفوا بتثبتهم عند تعاطي المعلومات، حتى يخشى ضعيف المعرفة الدخول بينهم ومناقشتهم ، ووصلوا لأن نهجوا التشهير بناقل المعلومات الضعيفة، أو الخاطئة في المجالس والأسواق، ليعرف ولا ينقل عنه، كما استبعدوا إسناد المهام لضعيفي اللغة وغير المتمكنين. وأرجعت الاختصاصية النفسية الدكتورة آمال الطيب تلك السلوكيات لسوء استعمال وسائل التواصل بين الناس، مشيرة إلى أن الأهم ليس امتلاك أدوات التواصل، ولكن إدراك الطريقة الصحيحة للتواصل الذي يسمح بتحقيق الأهداف في ظروف حسنة. وأوضحت أن المجتمع يُعَوّل على الأسر والمؤسسات التعليمية في تدريب النشء على الإصغاء، وسماع وجهات النظر المختلفة بهدف الاستفادة، والوصول بهم للقناعة بوجود المزيد لتعلّمه أيّاً كان مصدره، وتعويدهم على النقاش بالعقل والمنطق بعيداً عن النقد السلبي الذي يهتم بتسليط الضوء على السلبيات بهدف الإساءة، دون الاستعداد لطرح البديل، مما يغرس الضغينة في نفوس المتحاورين بعيدا عن الآراء المتعصبة. وقالت إن "الدراسات أثبتت أن أكبر المشاكل المسجلة على مختلف المستويات ناتجة عن نسبة كبيرة من الأسرالتي لا ترسخ سلوك التواصل بين أفرادها، والمؤسف أن المجتمع لا يربي أشخاصا لديهم القدرة على التواصل مع مجموعة مختلفة عنهم في المعتقدات، والآراء، والأفكار والتصورات". وقالت الطيب إن "أول مبدأ يجب الانطلاق منه في مجال التواصل هو '' أن كل شخص يخطئ ويصيب ، من هنا نعلِّم أبناءنا كيف نستع للآخرين، لندرك كيف يفكرون ومن ثم نفهمهم"، مؤكدة أن تعلُّم التواصل يتم عبر التربية والتثقيف على آداب الحوار وأصوله. وتنصح الشخص المعاند (المجادل) الذي لا يقبل توجيه اللوم إليه، ولا يستمع إلى صوت غيره، ولا يقبل إلا فكره بتغيير سلوكه بأن يقتنع بأن التعصب للرأي عدو يفسد عليه حياته الاجتماعية، وعليه أن يحدد الأشياء التي تثيرعصبيته ويتجنبها، مثلا الذي ليس لدية قدرة على الحوار وتقبل اختلاف الرأي عليه تجنب ذلك، وخصوصاً مواطن الخلاف، مشيرة إلى أن التعصب للرأي من أكثر المشاكل تفشّياً في مجتمعنا، حتى أمست تشكل خطراً اجتماعيا.